رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«تحت الوصاية».. مرة أخرى

لا أستطيع أن أمنع نفسى من إبداء الإعجاب بمسلسل «تحت الوصاية» الذى تعرضه الشاشات حاليًا كواحد من أبرز مسلسلات شهر رمضان إن لم يكن أفضلها جميعًا حسب رأى كثير من النقاد الثقاة والمتخصصين.. ويعود تميز هذا المسلسل من وجهة نظرى الخاصة إلى نجاحه فى الجمع بين المضمون الاجتماعى الجاد وبين المتعة الفنية وعدم المباشرة فى طرح القضايا، والبراعة فى السرد سواء عبر تتابع المشاهد وجمل الحوار أو عبر التصوير المميز فى أماكن الأحداث الحقيقية أو عبر الأداء التمثيلى البارع لكل المشاركين فيه، وهو ما يعنى تكامل عناصر العمل الفنى من كتابة لإخراج لتمثيل.. إلخ.. أما من ناحية المضمون فالمسلسل يطرح قضيتين إحداهما مباشرة والأخرى غير مباشرة.. القضية المباشرة هى القوانين القديمة التى تمنح الوصاية على الأبناء لوالد الأب إذا كان حيًا.. تطبيقًا لقاعدة «التعصيب» التى تستند فى أساسها لتفضيل الذكر عن الأنثى فى أى مفاضلة بينهما.. وبالتالى فالوصاية تكون للذكر الذى ينحدر الوالد المتوفى من «عصبه» مهما كان بعيدًا عن أسرة ابنه المتوفى وحتى إذا كان قريبًا منهم.. فالمؤكد أن هذه القاعدة مخالفة للطبيعة التى تقول إن الأم أقرب عاطفيًا ونفسيًا وجسديًا لأبنائها.. وإنها الأدرى باحتياجاتهم وإنها الطرف الذى يجب أن يتولى دفة قيادة الأسرة فى حالة غياب الشريك الثانى فى قيادة الأسرة وهو هنا الأب.. وإذا كان حرمان الأم من الوصاية المالية والتعليمية على أبنائها هو القضية الأولى التى يطرحها هذا المسلسل الرائع بشكل مباشر.. فإن القضية الثانية لا تقل أهمية.. خاصة أن صناع المسلسل يتركون المشاهد ليشعر بها ويتشربها دون إشارة مباشرة.. ولعل عظمة الفن تكون بقدر عدم مباشرته.. هذه القضية هى دناءة عدد كبير من الرجال فى مجتمعنا فى تعاملهم مع المرأة وقتالهم للانتقاص من حقوقها استنادًا لثقافة ذكورية جاهلة وعنصرية تتم تربية عدد كبير من الذكور أو الرجال عليها جيلًا بعد جيل، وآن الأوان لتغييرها.. فشقيق الزوج يرى أن أرملة شقيقه لا تصلح لتكون شريكة له ويسخر من فكرة مشاركتها فى رحلات المركب لصيد الأسماك ويشكك فى كفاءتها بشكل كامل.. فضلًا عن استحلاله سرقة نصيبها وأبنائها من عائد العمل استنادًا لكونها امرأة ضعيفة لا تملك أن تتصدى له.. وحين تنتقل هذه الأرملة الشجاعة بمركب الصيد لمدينة أخرى يرفض الصيادون جميعًا العمل تحت رئاسة امرأة رغم كونهم يجلسون على المقهى فى حالة بطالة مؤقتة.. وعندما تنجح فى تكوين فريق عمل يقبل العمل تحت رئاستها فإن أبرز أفراده يكون ذا طبيعة متحرشة اتساقًا مع اعتقاده أن أى امرأة عاملة لا بد أن تكون سهلة المنال وأن إقدامها على المغامرة بالوجود على مركب واحد مع أربعة من الذكور ليس له دافع سوى أنها امرأة منحلة!!! ولا شك أن هذا الممثل الرائع يجسد طريقة تفكير الملايين من الرجال فى مجتمعنا تتم تربيتهم على أن المرأة مجرد جسد يجب تغطيته.. وأن مكانها هو المنزل.. وأنها إذا خرجت من منزلها فالتحرش بها حلال.. بل إن دافعها للخروج لا بد أن يكون غير أخلاقى وفق زعم هؤلاء.. وكما تورط بعض مشاهير الدعاة فى السبعينيات والثمانينيات بالقول والتصريح للأسف الشديد.. وإلى جانب هذا الذكر المتحرش.. نجد نمطًا آخر من الصيادين الذين يعملون تحت قيادة هذه السيدة الشجاعة هو الصياد مدمن المخدرات الذى لا يعترف بقدراتها من الأساس.. ويمارس التقليل منها ويفسد شباك الصيد حتى يختبر مهارتها.. ثم يعايرها بأنها لا تجيد ما يجيده الرجال فيضطرها لمحاولة إثبات قوتها فتصاب إصابة بالغة تؤثر على نجاح رحلة الصيد التى تقودها وتلحق بها ضررًا بالغًا.. من الذكور عديمى الضمير أيضًا تاجر السمك الكبير الذى يستفزه أن ترفض استغلاله لها.. فيزايد عليها ويغلق الطرق أمامها ويتولى إفساد أى محاولة منها لبيع حصيلة الصيد كنوع من العناد والتجبر وكأن لسان حاله يقول: كيف تجرؤ امرأة على تحدى رجل مثلى.. وهذه كلها أشكال من التمييز تواجهها المرأة فى مجتمعنا من خلال هذه الأنماط من الذكور المتعصبين والذين تم تسميم أفكارهم من خلال خطاب دينى مزيف وسام لا يمت بصلة لقواعد الدين الحنيف الذى يدعو للرفق بالمرأة وعدم الفجور فى الخصام، فضلًا طبعًا عن تحريم التحرش والإيذاء بكل صوره.. وهكذا فإن عظمة هذا المسلسل لا تتمثل فقط فى الأثر السريع من خلال مشاريع برلمانية لتغيير قوانين الوصاية والمجلس الحسبى.. ولكن أيضًا من خلال التأثير العميق فى طريقة تفكير الذكور فى مجتمعنا فى المرأة ووضعهم أمام هذه النماذج غير الإنسانية من الذكور وترك الحكم عليها لضميرهم ومشاعرهم.. وهذه هى عظمة الفن وقدرته على التغيير فى العمق.. تحية لصناع مسلسل «تحت الوصاية» جميعًا وللشركة المنتجة له وللاستراتيجية الواعية التى توظف الفن من أجل عملية إصلاح اجتماعى وثقافى عميقة تصلح ما تم تخريبه على مدى نصف قرن كامل أو يزيد.. تحية للجهد والإخلاص والفن حين يخدم القضايا الجادة بدلًا من أن يتاجر بها.. وبين الاثنين فارق كبير.