رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جزيرة التعاسة «3-3»

فى الجزء الثالث والأخير من الفيلم الأيقونة «مثلث التعاسة» وبعد أن فجرت سيدة «بريطانيا العظمى» يخت الأثرياء- ليس على طريقة تيتانيك وأسطورة السفينة التى لا تغرق فغرقت بمن فيها- بل على طريقة «صلاح أبوسيف» فى فيلم «البداية» والذى كان طليعيًا سباقًا فى هذا الفيلم الفريد.. وبدلًا من الطائرة التى أسقطها صلاح أبوسيف فى الصحراء.. فجّر الأثرياء يختهم- بما صنعته أياديهم- لتكتمل أضلع المثلث التعس.. ويجد من نجا نفسه على سطح جزيرةٍ ظنوها خالية من الحياة وألا أحد غيرهم يعيش على أرضها فصارت الجزيرة النائية كصحراء «أبوسيف»- عالمًا جديدًا- سيعيشون فيه بشروط وضوابط جديدة أو بعبارة أدق صكوا لأنفسهم «عقدًا اجتماعيًا جديدًا» ليس على طريقة «سارتر» بل بمعطيات العصر الحالى والذى رصد إرهاصاته فى زمن الانفتاح «على بدرخان» فى فيلمه البديع «أهل القمة».. فصعد من كان فى القاع للقمة وصار من أهل القمة ليعلنوا انتهاء عهد الرفاهية.. وأن الحكم والكلمة الفصل لمن يكد ويعمل لا للكسالى ومن اعتادوا الاعتمادية وتسخير الآخرين لخدمتهم.
ورغم التفجير وكل ما حدث ظلت مديرة اليخت التى جبلت على خدمة الأثرياء والسهر على راحتهم وتلبية رغباتهم طيلة حياتها تمارس مهامها وكأنها ما زالت فى وظيفتها بل وكأن شيئًا لم يحدث أو يتغير وإنه عليها رعاية زبائن اليخت حتى وإن لم يعد لليخت وجود! فمن اعتاد تقديم الخدمات للأثرياء صار عبدًا لهم ولمالهم.. وأخيرًا صار الجميع- ولأول مرة فى تاريخهم- متساوين حقًا ولا أحد منهم لديه مال ليغدقه على الآخر.. وحتى إن وجد المال فلن ينفع صاحبه فى جزيرة مهجورة.. وفى باطن قارب النجاة كانت «أببجيل» تختبئ.. و«أبيجيل» هى العاملة التى كانت تلملم بقايا الأثرياء وتنظف مراحيضهم وغرفهم فى اليخت الفارة.. وفى ذات القارب وجد الناجون مع العاملة صناديق الماء وما تبقى من مؤنٍ وزعتها المديرة على الناجين بوصفها الرئيسة وأن «أبيجيل» ما زالت فى نظرها عاملة المراحيض وسيدة النظافة التى كانت تطرق أبواب الغرف لترتيبها وتنظيفها من مخلفات الأثرياء وكانت مسئولة عن الدور الموجود فبه غرفة «كارل ويايا» واللذان كانا ينسيان وضع علامة «عدم الإزعاج» على غرفتهم التى طرقتها ودخلت إليها «أبيجيل» من قبل لتنظيفها فطلبوا منها المغادرة بلهجة آمرة وبعدم اكتراث وظل كل ذلك محفورًا فى ذاكرتها.
انصاعت «أبيجيل» للمديرة فى بادئ الأمر ومنحتها ما كان مخبئًا فى قلب القارب من مؤن.. ولكنها بعد لحظات تنبهت.. ولأنها تعرف أنه لن يكون لها نصيب من تلك المؤن المخزنة بدأت تنتبه لذلك واستيقظت فطنتها وأدركت أن الحال قد تغير ولم يعد كما كان وهم على سطح اليخت الفارة حيث كانت مع الخدم والعمال فى القاع والأثرياء يمكثون فى مرتبة أعلى.. فالطبقية القاسية التى فرضها المجتمع الرأسمالى حتمت عليها المكوث فى القاع وأن يعتلى الأثرياء السطح والقمم.. فهنالك دومًا من هم فى الأعلى ومن هم فى الأسفل.. ولا يشعر من يجلس فى الأعالى بمن هم فى القاع وعلى هؤلاء القابعين فى القاع خدمة من هم فى الأعلى وكأن الحاجز الذى بينهم حاجز حقيقي.. حاجز مكانى وحاجز نفسي.. وكأنهما عالمان متوازيان لن يتقاطعا ولن يلتقيا أبدًا
حتى التقى الجميع فى «الجزيرة» والتى كانت نظامًا عالميًا جديدًا له قوانينه.. ومن يحكم هذا العالم هو الذى يفرض قانونه ويفرض كلمته.. فمن يملك «قوت اليوم» ويستطيع الإتيان به ليطعم الغير هو من يحكم وله السلطة والسطوة والسلطان.. وهكذا أصبحت «أبيجيل» «سيدة الجزيرة» الآمرة الناهية! فهى من تملك ما تبقى من مؤن وهى من تستطيع- بحكم كفاحها لسنوات كعاملة- أن تصطاد الأخطبوط وكل خيرات البحر لتطعم هؤلاء الجوعى الكسالى المترفين من ذوى الأيدى الناعمة.. ولأنها تعمل وتكد حتى على سطح الجزيرة وتأتى بالطعام فصار من حقها توزيعه «توزيع الثروة» وفقًا لرؤيتها وقسمتها هى وما تثمنه لنفسها وترى أنها تستحقه فلطالما اجتهدت وكدت وبذلت الكثير وتقاضت أثمانًا بخسة.. فها هى تعوض نفسها الآن بعد أن صارت «القائد» بتصاريف القدر وأصبحت العاملة سيدة على الجزيرة وتأمر فتطاع.
ومن ثم احتفظت «أبيجيل» لنفسها ليست فقط بقرار تقسيم الطعام بل تحكمت فى الكم الذى يصل للجميع وخصت نفسها بنصيب الأسد ومنحتهم الفتات كما كانوا يفعلون معها وهى على سطح يختهم الفارة.. فذهبت «الثروة ورأس المال» مجازًا للعاملة.. فالطعام على سطح الجزيرة المهجورة كان هو الثروة ورأس المال وصارت «أبيجيل» كالثرى الروسى «ديمترى» فى المكان المناسب فى الوقت المناسب فصارت ملكةً على الجزيرة مثلها مثل «ديمترى» «ملك الغائض»! ومن كان يتملقها ويقول لها أنت القائدة كانت تمنحه المزيد من الطعام.. فالسلطة مفسدة للجميع حين يمتلكها المرء وتتملكه تسيره وتغيره بشكل كامل.. ولم تعد ساعة «ديمترى» الفارهة ذات قيمة تذكر فى جزيرة لا يعيش على أرضها أحدًا سواهم ولا يسعهم فيها البيع أو الشراء.. فقطعة أخطبوط على سطح تلك الجزيرة صارت أثمن وأهم من أغلى ساعة تباع فى الأسواق العالمية.. وهذا ما قالته العاملة حرفيًا لديمترى الثرى عندما عرض عليها ساعته الفارهة مقابل المزيد من الطعام فرفضت! ومن سخرية وعجائب القدر أن يتذكر ويردد بل ويتلو «ديمترى الروسى» شعارات «كارل ماركس» «كاتب البيان الشيوعى السوفيتى» على أبيجيل متذرعًا بها قائلًا لها «من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته» وهنا فقط تذكر «ديمترى» «كارل ماركس» وأراد تطبيق مبادئ الاشتراكية على الجزيرة رغم كفره بها والسخرية منها على سطح اليخت! واعتبارها جحيمًا ووهمًا سرعان ما نادى وتشدق به عندما مسه الضر وصار فى عوز وحاجة للطعام فحاول ابتزاز أبيجيل نفسيًا وعاطفيًا بالشعار الشهير فهى تملك الثروة وهو فى احتياج لها فعليها وفقًا لمبادئ الاشتراكية أن تمنحه قسطًا منها وفقًا لحاجته ووفقًا لمقدرتها.. لكن القائدة ملكة الجزيرة «أبيجيل» صارت رأسمالية الهوى والقرار.. وقررت منح نفسها الكثير ومنحهم القليل وتبادلوا الأدوار وكأنهم فى لعبة الكراسى الموسيقية! أما الشابان «كارل» وعامل المحركات باليخت فقد تضامنا معًا لسرقة ثروة الجزيرة «بعض المقرمشات المخزنة فى قارب النجاة» لتكتشف «أبيجيل» تلك السرقة وتعاقبهم.. فالقائد صار قاضيًا ومانحًا ومانعًا وجلادًا وكلمتها لا ترد.. وبعد أن اكتفت من الطعام وسددت جزءًا أساسيًا من احتياجاتها الأولية.. تذكرت أنها «امرأة» وأن لها احتياجات أساسية أخرى مثل «الجنس» التى حرمت منه وكان متاحًا لـ«يايا» مع «كارل» الشاب اليافع.. فالجمال منح يايا المال والمتعة معًا والآن صار من حق «أبيجيل» الحصول على المتعة بعد أن حصلت على الثروة ومعها السطوة والهيلمان.. فساومت «أبيجيل» «كارل» على جسده الذى يباع منذ أول دقيقة فى الفيلم وطلبت منه أن يمنحها تلك المتعة الأساسية غير عابئة بأنه على علاقة بيايا! وبالفعل وليسد كارل حاجته الأولية من الطعام كان لا بد أن يدفع ثمن ذلك وبما أنه لا يملك شيئًا يمنحه لأبيجيل منح وباع «كارل» جسده لها فهو لا يملك سواه على سطح تلك الجزيرة وفى هذا العالم الجديد بمعطياته الجديدة فكان جسده مقابل الغذاء! وتسرب «كارل» كل ليلة فى الخفاء ليمنح «أبيجيل» احتياجاتها الأولية من الجنس وتمنحه هى حاجاته الأولية من الأكل والنوم فى الغواصة بدلًا من النوم مع بقية الأثرياء فى العراء!
وبعد أن شعرت «يايا» بما يحدث وقادتها قدماها التى سارت بهما طويلًا لمكان سمعت فيه صوت الموسيقى الصاخبة لنكتشف أن على سطح الجزيرة أثرياء يقيمون حفلاتهم فيها فصرخت فرحة فقد تبدد الكابوس وستعود «يايا» ويعود الجميع لما كان عليه الحال فى اليخت قبل انفجاره وهنا استشعرت «أبيجيل» الخطر وانتابها القلق والفزع من أن تفقد كل شىء وتعود كما كانت مجرد عاملة تجلس فى القاع لتنظيف المراحيض ويتصدر الأثرياء القمم من جديد لذلك كان لا بد من أن ترتكب جريمة ما لتعرقل عودتها وعودتهم للعالم القديم.. وكأنها أرادت إيقاف الزمن لتبقى ويبقى الجميع فى الجزيرة المهجورة التى أصبحت فيها القائدة المطاعة وفى ذلك إسقاط على حال المهمشين فى ظل المجتمعات الرأسمالية.
فحالهم دومًا كحال العاملة.. كأنهم والعدم سواء.. وليكون لهم مكان وموطئ قدم لا بد من هدم وتفجير المنظومة بأكملها، وكان المكان الجديد البكر «الجزيرة» هى ضالتها.. حيث يبدأ الجميع من الصفر ويكونون فى المكان المناسب فى الوقت المناسب ومن كان فى القاع يصبح فى القمة والعكس وتتبدل الأحوال بتبادل الأدوار.
وهذا هو الأمل الوحيد المتبقى والمتاح وهو العودة للمربع صفر وبناء مجتمع جديد «بعد هدم القديم» ليشكلونه بأنفسهم لصالحهم وبالتالى عندما شعرت «أبيجيل» بأنها ستفقد كل هذا وستعود «يايا» سيدةً عليها وسيعود «كارل» ليايا وستصبح هى مجرد خادمة لديهم قادتها غريزة الخوف لصب جل غضبها وغيظها المكتوم على «يايا» وهنا ترك لنا «أوستلاند» النهاية مفتوحةً لكنها فى كل الأحوال نهاية مأساوية حزينة نهاية دموية انتقامية وعلى كل متلقٍ أن يطلق لخياله العنان لتصور تلك النهاية الحزينة كل على طريقته الخاصة ووفقًا لما سيصل إليه خياله من بؤس وتعاسة ستطال يايا وكارل وأبيجل ومعهم الجميع. 
ولا بد من الإشارة لمدير تصوير الفيلم «فريدريك وينزل» والذى اعتمد على اللقطات والكادر الواسع كوسع المدى والحياة وكأننا نرى حقيقةً كل شىء يحدث.. فاللقطات الواسعة تظهر كل شىء ويظهر الكل داخل الكادر المتسع وكأننا نعيش مع شخصيات الفيلم على سطح اليخت.. نشاهدهم من خلال فرجةٍ هى الأقرب للمعايشة ولكننا لسنا فاعلين فقط نلاحظ ونرصد ما يحدث.. وذلك الأسلوب الذى أتبع فى التصوير يتناسب تمامًا مع طبيعة الفيلم والقضايا الواقعية والأطروحات التى يطرحها فلم يكن صانع الفيلم فى حاجة للسريالية أو الطرح الميتافيزيقى لذلك كانت الكاميرا ثابتة والأشخاص هم من يتحركون أمامها، وكأنها ترصدهم وترصد حيواتهم لنعايش معهم نحن أيضًا تلك اللحظات الواقعية التى لا علاقة لها بالخيال أو الميتافيزيقا لذلك لم يحتج المخرج المثقف الذى لديه فكر ورؤية وطرح يريد إيصاله لاستخدام الخيال أو الأنيميشن.
فأبطال العمل وصلوا رسائل الفيلم ومضامينه دون اللجوء لأساليب فنية مفتعلة يستعرض فيها المخرج قدراته الفنية والإخراجية كما يعشق المولعون بالرمزية وهوس العمق ليفوز «اوستلاند» بسعفة «كان» الذهبية مرتين، وبالتالى يصبح رئيسًا للجنة تحكيم المهرجان فى دورة عام ٢٠٢٣
وليأتينا مخرج من السويد له أسلوبه البسيط الخاص الذى يختلف عن أسلوب «برجمان» السويدى الذى توجت مدرسته على عرش الإبداع السينمائى لسنين فيأتى «أوستلاند» بمدرسة جديدة تختلف كليًا عن مدرسة «برجمان» وتتناسب فى رأيى مع معطيات النظام العالمى الجديد لتكشفه وتعريه.