رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المنيا فى ثوبها الجميل!


(1)
ما شهدته محافظة المنيا، فى الأيام السابقة، وشاهده المصريون ليس مشهدًا افتتاحيًا وإنما تتويج لجهدٍ كبير فى السنوات القليلة الماضية ربما لم تُتح الفرصة سابقًا لتسليط الضوء عليه بهذه القوة.
والواقع فإن الحديث عن تلك المحافظة الجميلة حديثٌ ذو شجون لمن عاش بها فى حقبة الثمانينيات والتسعينيات ويدرك معنى ما حدث بها مؤخرا، ويقدّره ويسعد به كثيرا!
تقول الحكمة إن الحُسنَ يُظهِرُ حُسنَه الضدُّ! 
ولن يستوعبَ أحدٌ قدر ما تم تغييره فى تلك المحافظة دون تنشيط الذاكرة بقليلٍ من ذلك الضد غير البعيد زمنيا!
حين أقمتُ بها أثناء دراستى الجامعية فى بدء التسعينيات أبهرنى شاطئ نيلها بتميزه عن باقى شواطئ محافظات الصعيد، وأبهرنى هذا القدر من التراث الحضارى الذى تحتويه المحافظة موزعا بين مختلف مدنها، والذى جعلها تتفوق على مناطق سياحية كثيرة بمصر. 
كانت المنيا آنذاك عروس الصعيد حقا، لكنها كانت عروس الصعيد مكانا، ولم تكن كذلك عقلا أو روحا! 
كانت عروسا حزينة مكتئبة مختطَفة ترتع فى مخدعها العقارب والحيات والأفاعى وروحها حائرة شاردة! 
أربع سنوات كانت كافية لكى نفهم أسرارها الحزينة المحبطة.. فقد ألقتها الأقدارُ لكى تنتقيها الجماعات الدموية لتستولى على قراها ومدنها الجامعية ومساجدها وتجعل منها مراكز لنشر سمومها، وتجعل من جبلها الشرقى ومغاراته المهيبة أوكارا ومخازن أسلحة وملاجئ لإخفاء رءوس تلك العصابات وأمراء الدم الحرام!
حُرمت المحافظة بقوة الإرهاب المسلح من التنمية، وتم تدمير السياحة بها باستهداف العائمات السياحية أثناء رسوها أو عبورها للنيل فى نطاق المحافظة!
تم غسل أدمغة أجيال كاملة فى القرى وتحويلها إلى ظهير مساند للفكر الضال المضل! انسحبت المؤسسات الدينية والثقافية التى كان من المفترض أن تقوم بدورها الوطنى والضميرى..والأخلاقى!
المؤسسة الوحيدة التى لم تهرب من واجبها فى المواجهة ودفعت الثمن نيابة عن الجميع كانت الشرطة المصرية! 
لم يكن بالمحافظة خطط تنموية تتماشى مع مساحة المحافظة وعدد سكانها، فانحسر أهلها بين مجتمع الموظفين أو المزارعين رغم تزايد عدد السكان، وقلت حظوظ الشباب فى الحصول على فرص عمل، وألقى كل ذلك بظلاله على المحافظة وأهلها، وكانت نتائج انتخابات 2012 معبرة عما تم إفساده فى العقود الماضية!
ثم كان آخر مشاهد القتامة مجسدًا فيما حدث بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة المسلحين مما تم توثيقه فى مختلف مدن المحافظة، وقمت بنقل بعضه فى كتابى "الكتاب الأسود"!
(2)
"هو المصرى كدا!".. بهذه الكلمات الثلاث وبلهجة صعيدية تميز أهل محافظة المنيا ختمت السيدة مريم رءوف فؤاد "أم مينا" حديثها عما فعلتَه عبر عشرين عاما وتحديدا بعد أن توفى زوجها، وهى فى ريعان شبابها وترك لها طفلين صغيرين. 
فى مصر هناك تقريبا ثلث الأسر المصرية تعولها نساء، ففى كل شارع وحى وقرية على أرض مصر هناك أمهات ضربن المثل فى الكفاح بعد فقد رب الأسرة. وفى كل عام تكرم مصرُ بعضَهن يوم عيد الأم. ويمكن أن تكون قصة "أم مينا" من قرية البرشا بمحافظة المنيا واحدة من عشرات آلاف القصص التى تمثل إحدى مفردات الحياة الحقيقية الشريفة فى مصر. لكن ما لفت النظر بشدة فى حديث سيدة المنيا هو هذه الكلمات الثلاث، قيامها بتمصير رحلة كفاحها، واعتقادها أن حملها لقب "مصرية" يجعل ما فعلتَه من طبائع الأمور!  
ففى حديثها مع قناة إكسترا نيوز قالت بتلقائية ما معناه.. "بعد موت جوزى قررت اشتغل جزّارة لأن دى مهنة أبويا علشان ولادى عينهم ما تنكسرش..الواحد لازم يشتغل وياكل من عرق جبينه ..هو المصرى كدا!".
كلماتٌ ثلاث من سيدة مصرية يمكن اعتبارها ملخصًا لتاريخ المصريين فى ذروة مجدهم.. لقد بلغوه حين كان هذا سمتُهم وكانت هذه شخصيتُهم وعقيدتهم فى الحياة!
المهندسة الزراعية أمانى فولى عبد الجابر- الحاصلة على الدكتوراه وصاحبة مشروع "سحر الطبيعة" الحائز على أكثر من جائزة تقييمية محلية ودولية، وهو مشروع الحصول على منتجات غذائية من نبات المورينجا- أدلت بتصريحات مهمة لنفس القناة عن رحلتها منذ مرحلة اقناع المجتمع بأن فتاة صعيدية يمكن أن تلتحق بكلية الزراعة وتمتهن الزراعة الحديثة وصولا إلى تتويج رحلتها بالوقوف وجها لوجه أمام الرئيس السيسى لتكريمها!
ما بين المشاهد القاتمة الحزينة التى عرضتُ لموجزها، وبين هذين المشهدين المضيئين حدث ذلك التغيير الكبير فى عروس الصعيد التى استعادت نضارتها وبريقها فعادت للحياة من جديد!
ومن تمام القول، فإن وصول هذين النموذجين من محافظة المنيا تحديدا وبكل مفرداتهما إلى منصة التكريم الرئاسية يعنى أن مصر تسير على الطريق العقلى الصحيح الذى كنا نأمل أن تسير فيه منذ عقود! 
(3)
ما وصلت إليه محافظة المنيا لم يكن ليتم دون أن تكون الدولة المصرية قد قامت بدراسة وفهم تلك المحافظة ومفرداتها وأحوال أهلها الاقتصادية والتنموية وأحوال قراها اللوجستية وما تفتقده من خدمات وأيضًا وما وقعت المحافظة- عقليا- فريسة له عبر العقود الماضية. وهذا ينفى تماما ما يردده المشككون أو المستخدَمون من عدم امتلاك الدولة المصرية رؤى قصيرة وطويلة الأمد لإدارة البلاد. 
فما حدث فى محافظة المنيا لم يكن فقط مجموعة مشاريع تم تنفيذها تحت مظلة المشروع الأكبر والأوحد من نوعه فى العالم "حياة كريمة"، وإنما كانت هناك خطة شاملة للنهوض بمحافظات الصعيد، وفى القلب منها المنيا. عملت الخطة على ثلاثة محاور متوازية، الثانى منها هو تشجيع الاستثمار المحلى والعربى بمشاركة مصرية للإسراع بتوفير فرص عمل وتعظيم استخدام موارد المحافظة غير المستغلة. 
أما المحور الأول فقد كان البعد الاجتماعى الذى يضعه الرئيس السيسى دائما على رأس الأولويات فكان هذا العمل العظيم الذى تم تحت مظلة المبادرة الرئاسية "حياة كريمة". 
وأما ثالث المحاور فقد كان هو أخطرها وأصعبها، وهو الملف الفكرى والعقلى والدينى والثقافى، أو المحور الخاص بالتغيير العقلى الذى إن لم يتم على أرض الواقع، فلن يكون لأى تغيير آخر مردود طويل المدى!
كما حدث فى مصر كلها، لم يكن ممكنا أبدا الشروع فى تلك الملفات دون تقديم قائمة كبرى من الشهداء العسكريين والشرطيين والمدنيين. 
تخليص المحافظة ومدنها من بؤر الإجرام الدموى التكفيرى كان هو البداية منذ لحظة انطلاق ثورة يونيو حتى المشاهد الأكثر ألما بعد فض الاعتصامات المسلحة والاعتداء على دور عبادة مصرية. كانت المواجهة الأمنية تتصدر المشاهد لتنظيف الأرض وتهيئتها للتغيير المنشود، سواء كان تغييرا اجتماعيا أو تنمويا أو ثقافيا.
(4)
بعد أن طهرت دماءُ الشهداء أرضَ المحافظة من مجرمى العصابات التكفيرية، وفى غضون عدة سنوات فتحت الدولة آفاقَ الاستثمار فى مدن المحافظة المختلفة، وجاء مشروع "مصنع القناة" للسكر على رأس تلك المشروعات. أكبر مصنع لإنتاج السكر فى العالم باستثمار مصرى إماراتى يقدر بمليار دولار. وهو ربما يكون المشروع الزراعى الصناعى الأكبر فى مصر منذ عام 1952م. يشمل استصلاح ما يقرب من 180 ألف فدان فى صحراء ملوى جنوب المنيا بخلاف 240 الف فدان أخرى لزراعة بنجر السكر لإنتاج ما يقرب من مليون طن سنويا وليقضى على أكثر من 75% من الفجوة بين استهلاك وإنتاج مصر من السكر. 
لقد وفر المشروع أكثر من مائتى الف فرصة عمل بين فرص مباشرة فى المصنع، وبين فرص غير مباشرة للفلاحين وعمال آخرين للنقل والتسويق وغيرها. واشتمل المشروع إنشاء أكبر صومعة تخزين سكر فى العالم تخزن 417ألف طن سكر.
كما قامت الدولة بإنشاء مشاريع مصرية مثل تنفيذ المزرعة النموذجية لتربية الماشية على مساحة 20 ألف فدان. وبلغ حجم الاستثمارات فى نطاق محافظة المنيا ما يقرب من 14 مليار جنيه.
تعد المنيا ضمن المحافظات الزراعية، فهى ثانى أكبر محافظة بعد أسوان من حيث المساحة بما يقدر بحوالى 32ألف كم بها أكثر من 6مليون نسمة فى مساحة 7.5% من إجمالى مساحة المحافظة. يبلغ مساحة الأرض المزروعة حوالى 576 ألف فدان. 
قامت الدولة المصرية ممثلة فى وزراة الزراعة بالاهتمام بتطوير وتعظيم قدرات القطاع  الزراعى بالمحافظة بشكلٍ غير مسبوق بالمشاركة مع مؤسسات دولية مثل الوكالة الألمانية للتعاون الدولى ممثلة للحكومة الألمانية. كان مشروع "الابتكار الزراعى" من أهم ثمرات هذا الاهتمام وتم تدريب أعداد كبيرة من المزارعين على تجهيز الأرض لزراعة محصول النعناع ومعرفة الطرق السليمة للزراعة لخفض التكاليف ورفع جودة المحاصيل. 
وجاء تكريم المهندسة الزراعية د.أمانى فولى- عن مشروعها الزراعى سحر الطبيعة- من قبل رئيس الدولة مباشرة تدشينا رسميا لاهتمام الدولة بتطوير القطاع الزراعى والاهتمام بالعقليات المصرية المبتكرة فى هذا المجال..
انتشرت المشاريع الصغيرة فى عاصمة المحافظة والمدن والمراكز مثل المطاعم المنتشرة على كورنيش المنيا وفى شوارعها الرئيسية تنفيذا لرؤية تشجيع المشاريع الاستثمارية الصغيرة بجوار الاستثمارات الكبرى..
(5)
أما ما تم إنجازه فى إطار مشروع "حياة كريمة" فى محافظة المنيا فهو يفوق أقصى طموحات الطامحين فى ظل ما صاحب تلك السنوات الماضية وحتى الآن من خوض مصر لحرب عسكرية وظروف اقتصادية عالمية عصيبة. فقرية "المعصرة" هى أول قرية فى إطار مشروع حياة كريمة تكتمل بها المشروعات بنسبة 100%. تولى مشروع "حياة كريمة" تطوير 192 قرية بالمحافظة باستثمارات حوالى 25مليار جنيه، بالإضافة لتطوير 39 مشروع بنية تحتية ما بين كبارٍ ومحاور ورصف طرق.
وفى إطار نفس المشروع زادت المدارس بنسبة 18% للمدارس العامة، ونسبة 22% للمدارس الفنية. وانخفضت نسبة التسرب من التعليم الابتدائى إلى حوالى 20% عبر السنوات الثمانية الماضية. بالإضافة إلى دخول جامعة المنيا الأهلية رسميا إلى مجال العمل. ولم يقتصر الاهتمام على بناء المدارس، لكن جودة التعليم كان نقطة هامة، ويكفى أن نعرف أن طالبا- صهيب عامر- من مدرسة المتفوقين بالمحافظة كان من ضمن أفضل 100 طالب على مستوى العالم فى علوم الأعصاب والابتكارات.
بين عامى 2014 و2020 تم تنفيذ 22256 وحدة سكنية من وحدات الإسكان الاجتماعى على مستوى محافظة المنيا بتكلفة أكثر من 4 مليار جنيه. ومن أهم المناطق التى تم تطويرها "أبو هلال" التى كانت معقلا للجماعة الدموية "الجماعة الإسلامية"!
ويعد مشروع "كمين الصفا" الذى يقع بين كمين الصفا والمطاهرة القبلية للإسكان الاجتماعى من أهم المشاريع التى تم إنجازها وتحولت تلك المناطق إلى مناطق آمنة بها جميع الخدمات.

(6)
لم يكن لذلك أن يمضى قدما دون أن يكون هناك تغييرا حقيقيا يستهدف تصويب الوعى وإصلاح ما أفسدته العقود السوداء فى تاريخ المحافظة. أعادت الدولة جميع المساجد إلى جهة الولاية الشرعية عليها وهى وزارة الأوقاف التى استجابت لدعوة الرئيس لتصويب الخطاب الدينى وتصدت- عبر إداراتها المختلفة بمحافظات مصر- لوضع تلك الرؤية موضع التنفيذ. 
وكان على الوزارة أن تبذل جهدا شاقا فى محافظات بعينها مثل محافظات مصر الوسطى التى كانت مركزا لنشر الفكر المتطرف عبر صعيد مصر. 
تخليص العقل الجمعى للمواطنين فى القرى مما تم غرسه من أفكار هدامة كان هدفا رئيسيا لمختلف المؤسسات الدينية والثقافية الرسمية وغير الرسمية. ولقد قامت الدولة- ممثلة فى قيادتها المحلية- بمتابعة تلك الجهود وتشجيعها وتوفير ما يلزمها. ومن أنشط تلك الجهود ما قامت به إدارة المرأة والأمومة والطفولة من حملات توعية فى قرى المحافظة أو بقاعة مركز خدمات المرأة والطفل بالمنيا الجديدة. سلسلة من الندوات بعنوان "الإرشاد الأسرى والمفاهيم الصحيحة فى الدين الإسلامى والتصدى للأفكار الهدامة" تمت بالفعل بالشراكة مع منطقة وعظ المنيا والمجلس القومى للمرأة ووحدة تكافؤ الفرص بالمحافظة.
حظى ملف المرأة فى المنيا فى السنوات القليلة الماضية بنصيبٍ كبير من الاهتمام، وتم توفير دعم فورى لأى امرأة فى أية قرية تتعرض لأى مشاكل عنف أسرى لحين تسوية مشكلتها بشكل نهائى.
اليوم تغير المشهد تماما عما كان حتى فض اعتصامات الإخوان المسلحة 14 أغسطس 2013م. المنيا أصبحت محافظة مصرية غير مختطفة. يسمع مواطنوها المسلمون كل يوم جمعة ما يسمعه باقى المصريين فى أية محافظة. بدأ الوعى يغزو القرى النائية وبدأ أهالى المحافظة يخرجون عمليا خارج تلك العباءة التى تم فرضها قسرا عليهم وبدأوا يشعرون بما تبذله دولتهم من أجل تحسين مستوياتهم المعيشية وتحرير عقولهم من تخاريف التطرف الدينى.
قطعا ومن طبائع الأمور أن هذا التغيير المنشود فكريا سوف يستغرق وقته المنطقى. فليس معقولا أن نغير فى عدة سنوات تراكمات قرون من الجمود وعقود من انغراس نصل التطرف الدينى الصريح فى جسد المحافظة. لكن المشرق المضىء هو أن نضع المشهدين- مشهد يوم 14 أغسطس 2013م ومشهد المنيا الآن- أحدهما فى مواجهة الأخر لكى ندرك بشكل يقينى أن هناك تغييرا عملاقا قد حدث فى تلك المحافظة، وأنها تسير مع مختلف محافظات مصر فى الطريق الصحيح!
تغيير العقول سوف يستغرق على الأقل جيلا كاملا، حتى يكبر من التحقوا بالمدارس فى السنوات التى تلت 2014م وشاهدوا التغيير الاقتصادى والتنموى ولم يقعوا فريسة- رغما عنهم- لأمراء الدم الحرام. هؤلاء حين يكبرون سوف تجنى مصر ثمار- بهم وبما سيقدمونه لبلادهم- غرسها الشريف كاملا فى تلك السنوات الحاسمة من تاريخ مصر المعاصر!