رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

(مثلث التعاسة).. وضلعه الأول

( مثلث التعاسة ) هو اسم الفيلم الرابع في مسيرة صائد الجوائز المخرج و السيناريست و المنتج و المصور و المونتير السويدي الشاب ( روبين اوستلاند ) و هو فيلم ملحمي يعري و يكشف دواخل البشر و منظومة القيم التي تحكمها و تتحكم فيها عوامل خارجية و كما حصد فيلمه ( المربع ) عام ٢٠١٧ السعفة الذهبية لمهرجان (كان ) يحصد فيلمه لعام ٢٠٢٢ بأجزائه الثلاثة ذات الجائزة الكبرى عن استحقاق و جدارة .. تستوجب تخصيص ثلاث مقالات متتالية لكل ضلع من أضلع المثلث التعس و أجزاء الفيلم الثلاث ( الجزء الاول و الذي يتحدث  فيه ( أوستلاند ) عن عوالم الموضة و الازياء التي تسلع الرجل كما المرأة و على قدم المساواة و يسخر فيه ( أوستلاند ) من ثقافة (البراندز ) و العلامات التجارية الفارهة و هي ثقافة استهلاكية منحطة تتولد منها و عنها سلوكيات و معتقدات عفنة أدمنها الأثرياء اما الجزء الثاني و عنوانه ( اليخت ) و يرصد من خلاله الشخوص و الاحداث التي تقع داخل اليخت و الصراع الوجودي الكائن بين الاشتراكية و الماركسية والرأسمالية اما الجزء الأخير و الخاص بالجزيرة ..و التي نكتشف انها منتجع للأثرياء كاليخت و كعوالم الموضة و البراندز 
فطوال الفيلم هنالك صراع خفي و أحياناً معلن بين المتضادات ( الرجل و المرأة ) ( البرجوازي  و العامل ) ( الاشتراكية و الرأسمالية ) ( القيم الاستهلاكية البالية في مواجهة الشعارات الطنانة و الترند ) و هكذا يشعر المتلقي طوال الفيلم انه في حلبة صراع بل و كأنه يشارك -و ليس مجرد متفرج من الخارج - في هذا الصراع بل جزء منه .. فالفيلم ينتمي لسينما الواقع و يطرح قضايا جادة و وجودية تخص العالم و العصر الذي نعيش فيه بنزعة كوميدية ساخرة كبقية افلام اوستلاند الثلاثة الاخرى فهو مخرج يطرح دوماً قضايا تمس الانسان وواقعه .. و كما طرح في فيلمه ( المربع ) قضية الصوابية السياسية يطرح في مثلثه البديع التعس عدة قضايا لننتبه و ليستفيق الجميع و كأنه يعلن صفارة الانذار قبل فولت الأوان تماما كما فعل فيلم ( parasite ) عام ٢٠١٩ و حصوله على سعفة كان الذهبية آنذاك كذلك فيلم ( البؤساء ) الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم أيضاً في مهرجان كان و أخيراً ( الجوكر ) و الحائز على الاوسكار و عدة جوائز اخرى .. فالافلام الثلاث تعبر عن ذات الازمات الوجودية المعاصرة و ينضم مثلث الاحزان لهم عام ٢٠٢٢ ليذكرنا بما نسيناه ربما خلال عامين من جائحة كورونا ..  و يؤنسن ( اوستلاند ) دوماً قضاياه و ما يطرحه من أفكار  ..فالانسان يعنيه دائماً و في المقام الاول لذلك وصلت افلامه للعالمية و حصدت جوائز عالمية تجاوزت حدود موطن صاحب العمل لفضاءات أوسع و أكثر رحابه بفضل تلك النزعة الانسانية الطيبة و الغالبة على افلامه الطوباوية التي تتوق لليوتوبيا المثالية و لعالم افضل و بشر طيبون 
و سأبدأ الحديث في هذه المساحة عن الجزء الاول من العمل الملحمي و الذي أسماه صاحبه باسم بطليه الاساسيين ( كارل و يايا ) مع العلم بان الفيلم يعتبر بطولة جماعية و بإمتياز .. فاصغر دور فيه نجده دور بطولة ! فالمساواة التي يتوق لها اوستلاند في الواقع حققها  في مثلثه التعس .. الذي ساوى فيه بين جميع شخوص العمل و برز كل ممثل في دوره و كأنه البطل الاساسي. 
يبدأ الجزء الاول من الفيلم بتقرير مصور يجريه صحفي مع عارضي الازياء من الرجال و يسخر فيه الصحافي من امتهان الرجال لتلك المهنة التي يجنون منها ثلث ما تجنيه المرأة و ربما أقل و في نفس الوقت يتعرضون فيها للتحرش الجنسي ! و كأنهم في سوق تباع فيه أجساد الرجال و معها أرواحهم بالطبع 
و في اطار تلك السخرية يسخر ( اوستلاند ) في المطلق من فكرة( الموضة) و صيحاتها التي ترى انها تجدد و تطور من نفسها و تضيف عمقاً ما ليس فيها بكل تأكيد لذلك تتشدق العروض عادةً بشعارات طنانة كاذبة لا تحققها بل تحطمها الموضة مثل ( النسوية ) و ( المساواة ) و أن ( كلنا واحد و متساوون ) كما تعرف شعارات مثل ( حبوا بعضكم ) (اعملوا ) ( مناخ جديد يغزو العالم ) في حين انه مناخ جديد يغزو الموضة و يرفع شعار ( السخرية متنكرة في التفاؤلية ) ! 
و السخرية تطال هما ايضاً العلامات التجارية الشهيرة الباهظة من خلال وصف الصحفي لما توحي به تلك العلامات  من ايحاءات و انطباعات .. فالعلامات التجارية المتوسطة غير المكلفة و التي ترتديها العامة يبدو فيها اصحابها متلاصقون و متساوون و كأنهم أصدقاء ينتمون للواقع المعاش و حياتهم بسيطة يمرحون فيها و يبتسمون اما العلامات الباهظة الشهيرة فنظرات من يرتديها تقول ( لا عاطفة لدينا .. إياكم و الاقتراب منا .. نحن أقوياء و قساة و يصعب اللحاق بنا نحن الجنس الآري !! ) 
و بالتالي فعلى عارض تلك الازياء الباهظة و لكي ينجح و يحصل على تلك الوظيفة ان يتعامل مع عملائه بغطرسة و كأن لسان حاله يقول ( إذا أردت أن تكون من علية القوم و ترتدي تلك الثياب الباهظة فلتدفع اكثر لتصبح من ( الجنس الآري ) 
فالاثرياء يرون أنفسهم هكذا ..  و يكونون في الاغلب شديدي الهوس بمظهرهم .. ليتناسب ذلك المظهر مع الصورة النمطية لعوالم الثراء الرأسمالية ! لذلك حرص مدربي عارض الازياء ( كارل ) -و الذي يتقاضى ثلث ما تتقاضاه عارضة الازياء الشهيرة التي أحبها ( يايا ) - ان يتخلص ( كارل ) من ( مثلث التعاسة ) التي يظهر على جبينه و بين حاجبيه لتتناسب نظراته مع السلعة التي يبيعها و كأنها جزء منه بل و كأنه يباع معها فهو يستمد قيمته و عنفوانه وثرائه منها و من الاموال التي ستدر عليه من بيعها .. و بعد مشهد التدريب و التقرير الصحفي مع عارضي الازياء الرجال يبدأ عرض أزياء ( يايا ) الذي أقبل عليه الاثرياء و الذين زحزحوا (كارل ) من كرسيه الذي كان يجلس عليه في المقدمة ليشاهد حبيبته من الصفوف الاولى ليصبح مكانه في المؤخرة  في اشارة لكينونته الحقيقية و بوصفه تابع ل ( يايا ) و مجرد نكرة مضافة لحبيبته الشهيرة التي لم تخجل من الاعتراف له بان علاقتهما مهمة بالنسبة لها من اجل الدعاية و كسب المزيد من المعجبين و من ثم المزيد من المال مما جعل ( كارل ) يدخل معها في تحدٍ مدفوع فيه بثقة و يقين بأن ( يايا ) سوف تحبه حباً حقيقياً في نهاية المطاف .. و لسخرية القدر فهذا ما حدث في نهاية الفيلم 
في حين رأينا العكس تماما من (كارل ) عندما وُضع هو في ظرف مغاير جعله ينحاز لمصلحته اولاً ناسياً تماما شغفه ببايا .. فحاجاته الاولية كانت لها الاولوية و ارتقت على مشاعره و حبه و اخلاصه ليايا 
و في مشهد مركزي في هذا الجزء من الفيلم يدور حوار عبثي بين (كارل ) و حبيبته عندما طلب منها تحقيق المساواة بينهما و ان عليهما اقتسام كل شيء بما فيه فاتورة العشاء ! ليشعر ( كارل ) انهما متساوون كبشر لا كرجل و امرأة رغم انه يمارس معها في حياته ما يمارسه الرجال مع الاناث و هذا ما قالته له ( يايا ) و التي اعتادت على ان كل شيء يدفع لها و يأتيها بالمجان .. فجمالها و شهرتها تسدد لها فواتيرها دون ان تدرك تلك الشابة الجميلة ان تلك المجانية ( باهظة التكاليف ) و ان جمالها و شهرتها قد تقضي عليها ان شعر الاخر بالغيرة أو الحقد تجاه ما لديها هي و ما ينقصه هو 
و أضافت ( يايا ) التي تعي ان للجمال و الشهرة عمر افتراضي انها لابد و ان تشعر مع الرجل الذي تعيش معه بالامان و انها ان فقدت وظيفتها و قامت بدور اخر منوط بالإناث عادة في الحياة و هو دور (الام ) فلابد و ان تشعر ان شريكها سيتكفل بها و بطفلها 
و عندئذٍ سألها كارل -سؤال اخر عبثي - ان كانت ترضى ان تعمل في مهنة عادية لا علاقة لها بالجمال و الشهرة فجاءت اجابة الفتاة منطقية و تتسق تماما مع نمط حياتها و من ثم رؤيتها هي للحياة و ما تتوق اليه قائلةً (و لماذا أفقد ما لدي .. وظيفتي لا يمكن التضحية بها )
فالمال الوفير و الهدايا المجانية التي تحصل عليها يايا لمجرد انها شابة جميلة لديها جسد جميل 
شيء لا يمكن التفريط فيه و لا يوجد اي منطق او جدوى لتفعل هي ذلك في ظل عدم توافر البديل الذي يستحق منها تلك التضحية 
وفي الاسبوع المقبل استكمل معكم الحدبث عن الجزء الثاني من الفيلم و عنوانه ( اليخت )