رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أجانب أحبوا مصر (٢)

جون ماري كارييه.. عمل بجامعة كاليفورنيا، ثم انتدب للعمل في جامعة القاهرة مدرسًا للأدب الفرنسي في قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب سنة 1929 وكان في الثانية والأربعين من عمره، يتميز بثقافته الواسعة، ورحلاته المتعددة، تخصص في دراساته الجامعية في مجال الفلسفة والأدب، واهتم بالشاعر رامبو، فأصدر كتابًا عنه سنة 1926، تم تخصص في الأدب الألماني وأصدر كتابًا عن الشاعر جوته.
استمر في العمل أربع سنوات، كان من نتيجتها كتاب "رحالة وأدباء فرنسيون في مصر" ظهرت طبعته الأولى سنة 1933، ليحصل في نفس العام على جائزة الأكاديمية الفرنسية.
الكتاب يتألف من جزأين. الجزء الأول من بداية الهيمنة التركية وحتى نهايتها تأليف جون ماري كارييه، ترجمة سونيا نجا. الجزء الثاني: منذ الهيمنة التركية حتى افتتاح قناة السويس (1840-1869) ترجمة رشا صالح.
الكتاب من إصدارات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة 1956. يحاول المؤلف من خلال معالجته للمواد المطروحة أن يوفق ويوازن بين إيقاع عنصر الزمان، وإيقاع عنصر المكان، جزء من مادته ينتمي للتاريخ والجزء الآخر ينتمي للجغرافيا، وخلال محاولة التقاء بين العنصرين تتشابك اللغات، فمن يكتبون هم فرنسيون، والذين يكتب عنهم مصريون، من خلال مراحل متعددة من طرق التعبير.
الكتاب يغطي الفترة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، وقدم صورة حية لحياة المصريين من خلال رصد تلك الفترة بعيون رحالة ومهندسين وأدباء وخبراء زراعة ومعادن وسدود وإنشاءات وآثار وغير ذلك. عبارة عن ملحمة علمية وأدبية دقيقة تمتد في فترة زمنية مدتها ثلاثة قرون تبدأ من دخول الأتراك مصر في 1517، وتنتهي في افتتاح قناة السويس عام 1870.

جمع مؤلف الكتاب ما بين الأدب والتاريخ فجاء كتابه خليطًا من الأدب والتاريخ بلغة فرنسية سلسة. اقتفي المؤلف آثار هؤلاء الرحالة الذين زاروا مصر، وزار نفس الأماكن 
جمع الكتاب بين النصوص التي تركها الرحالة، والمشاهدات التي شاهدها هو خلال إقامته في مصر.
يعترف المؤلف صراحة بأن الجهل بالشرق ينطبق حتى على كتابات الأسماء التي عرفت طريقها إلى الشهرة مثل ديكارت وباسكال، حيث كانت صورة الشرق في كتاباتهم تتسم بالأحكام العامة القادمة من العصور الوسطى. 
التنوع الزماني للفترة التي ينطلق منها الكتاب، يعطي الكتاب تنوعًا في الأفكار والموضوعات، فقد برع المؤلف في طرح أفكار فلاسفة سان سيمون عن الإنسان والأمثلة التي يبحثون في تحقيقها على أرض مصر، وتحولات فلوبير بين الرومانسية والواقعية، وتأملات الشاعر والرحال جيرار دي نرفال في الصوفية والرومانسية والبحث عن تحقيقها في أرض مصر، وآراء رينان عن الحضارة المصرية في منظومة نظريته وآرائه عن الشرق ومقارنة مع الغرب. كما تحدث الكتاب عن نظرية شامبليون في فك شفرات اللغة الهيروغليفية، وكلها تلتقي مع اهتمامات صفوة الرحالة والأدباء بمظاهر اجتماعية تبدو بعيدة عن الاهتمامات.
يكتب عن مصير راقصة نفاها الخديو مع الكثير من العوالم والراقصات الأخريات من القاهرة إلى إسنا، ونتيجة لذلك أصبحت إسنا جزءًا من خريطة الرحالات الأجنبية، كما استعرض المؤلف عالم المخنثين الذين امتلأت بهم القاهرة في ذلك الوقت الذين ازدحمت بهم منتديات القاهرة ليسدوا فراغ رحيل العوالم المنفيات، جنبًا إلى جنب مع فرق الدراويش وأصحاب الكرامات الذين يبهرون القادمين بعفويتهم حينًا وباحترافهم حينًا آخر ومشاركتهم مع آلاف الطوائف والفرق في زفة كسوة الكعبة الشريفة، عندما كانت تنتجها مصانع مصر، وترسلها على ظهور الجمال إلى الأراضي المقدسة تحت رعاية الخديو واهتمام رجاله ورؤساء الجنود ويشيعها ممثلو الطوائف ببراقهم وراياتهم في مواكب مهيبة لم تشهدها أوروبا منذ عصر الاحتشاد للحروب الصليبية في فترة ازدهارها الكبرى.
ظهرت صورة الشرق في الكتاب، من خلال الكتاب الأوروبيين من منتصف القرن السابع عشر، عندما بدأت تتشكل صورة الشرق في أعمال الكاتبين موليير وفولتير، وكانت صورة الشرق تتجسد لهما في التركي والفارسي أو العربي على نحو مختلف، وهي نفس الفترة التي انطلق فيها رحالة أمثال جون دي تيفونو ودي ميليه نحو مصر وبلاد الشام مرورًا بتركيا، يسجلون ملاحظاتهم حول الواقع، ويحاولون اكتشاف الماضي، ويضيفون إلى معلومات الكتاب والأدباء تتلاشى أمامها صورة الشرقي التقليدية، وتظهر صورة بشرية جديدة. 
ألهمت الطبيعة المصرية الجميلة واللوحات التي نقلها الرسامون والرحالة أقلام كتاب كبار في القرن التاسع عشر، أمثال شاتوبريان والرحالة والمثقفين من خارج حرفة الأدب. فيكتب الدبلوماسي الشاب مارسيلوس كتابه "ذكريات الشرق" عن زيارته لمصر سنة 1820. وفي واحدة من لوحاته يصور روعة الإبحار ليلًا على شاطئ النيل في مركب شراعي جاء فيها:
"كانت النسمة الرقيقة التي أعقبت النهار قد توقفت عند منتصف الليل، واضطررنا إلى طي الشراع والتقدم بالمجاديف، ونما إلى سمعي غناء صدح به اثنان من العرب المرافقين لي. ثلاث نغمات تلاعب صوتهما عليها صعودًا وهبوطًا. غناء حزين على إيقاع حركتهما في التجديف، كان غناء متناغمًا ومتناسقًا له طابع يلائم الإبحار أكثر من كل ما يشدو به بحارتنا، كان صوتاهما يهتزان فوق الموجات الصامتة، ولكنهما لا يترددان بعيدًا، فهذه الشواطئ الرملية المنبسطة لا أصداء لها".