رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الساعة الخامسة والعشرون».. لحظة ميلاد الآلة وموت الإنسانية بعد الحرب

غلاف «الساعة الخامسة
غلاف «الساعة الخامسة والعشرون»

إنها «الساعة الخامسة والعشرون» حيث اللاعودة، كل شىء يذهب إلى مثواه الأخير حيث إعلان الحرب ضد الإنسان، ساعة يتجرد فيها الإنسان من حريته ويباع بمقابل صندوق من الذخيرة. إنها الحرب العالمية الثانية حيث الصراع بين الألمان والروس، ومتى بدأت الحرب فليذهب الإنسان ولتذهب المبادئ الإنسانية إلى الجحيم. هى ساعة يكون فيها الإنقاذ قد فات أوانه وفات الوقت كذلك للموت الرحيم وصارت الحياة عديمة الجدوى، لأنها الحياة بعد فوات الأوان، وما دام الأوان قد فات، فلن تصلح هذه الساعة لأى شىء. إنه الوقت الذى تُحرم فيه القوانين على بنى الإنسان العيش كما تحلو لهم الحياة. إنه مجتمع تحكمه الشمولية والعمومية وتفقد فيه الإنسانية كل الشعور بالقيم الفردية والأخلاقية وبالكيان الفردى.

تبدأ الرواية بالحديث عن إيوهان موريتز الإنسان البسيط العادى، الذى لا يختلف بشىء عن غيره بل ربما أكثر سذاجة وطيبة وإنسانية من معظم البشر، فهو فى زمنه إنسان أبله يخضع إلى كل العواقب والزلل بحسن نية. إيوهان موريتز هو بداية انفراط العقد الإنسانى ليتدرج فى هاوية مظلمة لا نهاية لها، تتوحد الشخصيات فى الألم وتصبح أرقامًا لا ظل لها. تصرخ بأعلى صوت لكن لا فائدة من الصراخ، لأنها الساعة الخامسة والعشرون. هل يمكن أن يكون الإنسان طيبًا ومطيعًا إلى هذا الحد أم أن اليأس والعجز هما اللذان يدفعاننا إلى المسالمة؟ 

بالتوازى، القصة تأخذ شخصية رئيسية أخرى، تريان كورغا الشخصية التى تقمصت شخصية وعقل الكاتب قسطنطين جيورجيو وبث فيها كل الاستطرادات النفسية والإنسانية والعقلية والفكرية فى هذه الرواية. 

البناء على هاتين الشخصيتين كان فعالًا جدًا، فهو يسقط آثار ما بعد الساعة الخامسة والعشرين- الحرب العالمية الثانية- حيث يعيش العالم فى نظام بربرى قاسٍ، لا توجد به حياة للقيم الإنسانية ويعيش كل إنسان طبقًا لإحصاء وبأوامر من آلة ويحكمه نظام آلى رقمى لا يعترف بحقوق ليسيطر المجتمع التقنى الآلى على شتى مناحى الحياة.

الشخصيات الخلفية الأخرى وضحت النزق الإنسانى حيث الأنانية، الجشع، الغباء، الأمل، التدين، الخوف، الخنوع وغيرها الكثير. فتتخطى القصة آلام شخصياتها لتتعدى إلى آلام الإنسان بوصفه إنسانًا وفق منظومة وينتج عن ذلك فقد الإنسان فرديته وإنسانيته.

رواية تتجلى فيها أصداء الملاحم الكبرى، والتراجيديات الإغريقية والمآسى الشكسبيرية، ومجمل الأعمال التى انصب اهتمامها على مصير الإنسان، لذلك فهى تنتسب إلى سلالة الآداب السردية الرفيعة الخالدة.

أبدع الكاتب فى وصف عصر يموت فيه الفكر ويشتعل، وتندثر أفكار خلاقة لتظهر غيرها أفكار أكثر متانة وعصرانية وقدرة، عصر تتبدل فيه الطبائع والأنفس البشرية بأنفس تقنية أكثر ميكانيكية، عصر تنمو فيه التكنولوجيا وتتراجع فيه القيم وينحدر الإنسان إلى أدنى مكانة لحساب إنسان آخر أحقر فلسفة لكن أكثر مكنية منه. استخدم الكاتب طريقة سرد متمكنة ملهمة ولغة ومصطلحات وكلمات عذبة شديدة الحدة والعمق، حيث رويت على لسان القليل من الشخصيات ولم يكن للكاتب سوى القليل من الصفحات، لكن روح الكاتب كانت تعيش فى شخصية تريان كورغا.

الرواية هى صرخة الإنسان حيث توضح اختفاء الإنسان وتمدد الآلة والبيروقراطية حيث تكشف خيانة الإنسان لذاته. ورغم قتامة هذه الرواية وكمية الألم الموزعة بين سطورها، تحمل كمية كبيرة من التفاؤل بشكل ساخر، تحمل دعوة لقرائها بالتركيز على الإنسان، على القيم، على الإيمان والسعى لغدٍ أفضل بعيدًا عن التعصب والأيديولوجيات ومحاكم التفتيش والعنصرية والتمييز المتنوع والمتعدد.

إن رواية «الساعة الخامسة والعشرون» أحد أكثر الأعمال السردية الباعثة على أسئلة جذرية حول مصير الإنسان المأساوى، فعالم الرواية الافتراضى متاهة يتعذر أن ينجو منها أحد. وعلى النقيض من معظم الأعمال السردية حيث يختل توازن الأحداث ثم يعاد فى النهاية، فإن نسق الاختلال يتعمق بمرور الزمن، ولا يعود إلى سابق عهده.