رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وقفة مع علاء الديب

المنزلة الرفيعة التى بلغها الأستاذ علاء الديب «٤ فبراير ١٩٣٩- ١٨ فبراير ٢٠١٦» فى الحياة الثقافية المصرية ليس سببها فقط قيمته الأدبية العالية كروائى وكاتب قصة ومترجم وكاتب مقال، ولكن أيضًا بسبب شخصيته الآسرة ومسيرته النقية وعفة نفسه ومواقفه النبيلة، هو نموذج للمثقف الشريف الذى لم يزاحم أحدًا على شىء، ولم يطلب شيئًا من أحد، المعتزل الذى لم يتوقف عن العمل والتبشير بالمواهب الجديدة والحلم بمستقبل أرحب، شخصياته الروائية كانت مهزومة، وحين سأله أحدهم: أى واحدة تحب؟، أجاب: كلهم أنا، وأضاف: «أنا أعشق المهزومين، وأكره الذين يدَعون الانتصار دائمًا»، هو من الجيل الذى كسرته هزيمة يونيو، وكان يردد دائمًا: «قتلتنى ومن يومها وأنا ميت»، تنقل فى شبابه بين كل الاتجاهات السياسية، وفى النهاية وجد نفسه فى «قلب النظام» بعمله فى الصحافة التى كان يطلق عليها وقتها «الكتيبة الأولى»، كان مصدقًا لأحلام يوليو العظيمة، هو بالطبع ينتمى إلى قيم الوطنية المصرية التى تشكلت قبل ١٩٥٢، ورسختها الثورة لها، العداء للاستعمار، العدالة الاجتماعية، الصناعة الوطنية، دعم حركات التحرر الوطنى وفى مقدمتها فلسطين، فى رواية «أيام وردية» نجد بطل الرواية أمين الألفى يقيس بفلسطين «مواقع الناس، وعامل مساعد يكشف به الصدق من الكذب»، وعاشت هذه الأرض المحتلة بالنسبة له «دائمًا تسد حلقه، كأنما هو الذى باع، والذى خان، هو الذى مات وصمد مثل الشجر، هو الذى انفجر واستشهد، هو الذى تشرد وحوصر وقاتل وقتل»، ثلاثيته التى ضمت «أطفال بلا دموع وقمر على المستنقع وعيون البنفسج»، هى جدارية شجية وحزينة تصور كيف انهارت الأحلام، فى الجزء الأول يحكى البطل منير فكار من وجهة نظره عن مبررات سفره إلى الخليج ونهمه لجمع المال، يحكى بصدق مرير، صدق أستاذ الأدب العربى المضطر لكتابة أبحاث فى موضوعات قتلت بحثًا مثل غزل المعلقات، هو نموذج لكثيرين من أبناء الطبقة الوسطى الذين تركوا مصر بعد النكسة وعادوا محملين بعادات وأفكار غريبة، عادوا بلا روح، ومع هذا يشعرون بالزهو لأنهم يملكون المال، فى الجزء الثانى تحكى الزوجة من وجهة نظرها الحكاية نفسها، وفى الجزء الثالث يحكى الابن، هذه الثلاثية إلى جوار رواية «أيام وردية» والسيرة الذاتية التى حملت اسم «وقفة قبل المنحدر» هى أعمال تؤرخ للهزائم التى منيت بها الطبقة المتوسطة، تؤرخ للعذابات التى ولدت بسبب غياب الأحلام الكبيرة، تؤرخ «لأحزان الوحدة الخانقة»، الابن فى الجزء الثالث يشعر بأنه «بلا جذور، معلق فى الهواء»، ولم تعد هموم الوطن هى سؤاله، فقد انقلب السؤال إلى: هل ثمة وطن أصلًا؟. إنه يسأل صديقه حسين كاظم: «أنا لم أعد أعرف ماذا يعنى أن أكون مصريًا؟ هل تستطيع أن تقدم لى تعريفًا للوطن؟»، فى مجموعاته القصصية «القاهرة، المسافر الأبدى، صباح الجمعة، الشيخة، الحصان الأجوف» كانت روح الشاعر بداخله هى التى تقود أو تظلل السرد، لم نعرف صاحب ذائقة شعرية مثله فيمن عرفنا، لأنه كان يرى «الألم الكبير يصنع الشعراء، هل يمكن أن أصبح شاعرًا الآن؟ الشعراء ينتحرون، العباقرة منهم يموتون مبكرًا، أنا أدب على الأرض وآكل الطعام، لا شعر ولا غياب، حضور- فقط- بلا مذاق، فى الركن الذى يضيق حولى يومًا بعد يوم بحثت عن أشياء بديلة غير النقود والطموح والرغبة فى النجاح فلم أجد، الشعر ضوء فى نهاية النفق، لكنه ضوء مستحيل كما صار البنفسج مستحيلًا»، ترجماته تشير إلى ذائقته الفريدة أيضًا، لبيكيت وهنرى ميلر ومختاراته من القصص الأمريكية، بالإضافة إلى ترجمته الساحرة لكتاب «الطريق إلى الفضيلة» للفيلسوف الصينى «لاو تسو»، هو صاحب أشهر زاوية حملت اسم «عصير الكتب»، فى تاريخ الصحافة المصرية تبشر بالكتب الجديدة والمبدعين الجدد، فى مجلة صباح الخير، وكان صاحب فضل على كثيرين وأنا واحد منهم، قال عن دوره هذا فى حوار بمجلة الثقافة الجديدة سنة ٢٠١٠: «منذ سنوات بعيدة أمارس اختيار الكتب للقارئ، وكلما مرت السنون زاد الأمر صعوبة، وأدركت مدى أهمية هذا الاختيار والمسئولية الواقعة خلفه، يجعلنى أحدق عن قرب فى حال الكتابة والكتاب، وظروف القارئ وحاجته إلى الكلمات القليلة التى أكتبها.. لا أمارس النقد بمعناه التقليدى أو الأكاديمى إنه اختيار، ومحاولة تذوق مشترك بينى وبين القارئ، أى أنه فى الأصل محاولة للبحث عن سياق، وكلمة سياق أدبى، كلمة أظنها تحتاج إلى توضيح، السياق الأدبى الذى أقصده هو بناء وهمى شامخ يشترك فى إقامته صانع الأدب ومتلقيه يخرج منه المدعى والمقلد وصانع التجارب، ومحاولات الإبهار كما تخرج منها الشلل المنتفعة والنقد المتعالى الذى لا يقدم بل يُقلد ويُحّير»، علاء الديب بالنسبة لى كان سندًا حقيقيًا، كأستاذ وأب ومعلم وقدوة، بيته الجميل فى المعادى كان الملجأ الذى أهرب إليه إذا ضاقت الدنيا، أو كنت فى حاجة إلى نصيحة، حوطنى هو وأسرته بدفء من الصعب توصيفه.. السبت الماضى كانت ذكرى رحيله السابعة، وكنت مع عدد غير قليل من محبيه، وكانت ابتسامته الرائقة تتابعنا وتحنو علينا.. ألف رحمة ونور.