رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كان قلبه إسكندرانى

فى المدرسة لم أكن أحب حصة الجغرافيا.. كنت أكره الخرايط.. والرسم.. والكلام عن السكان والحدود.. والكورة اللى بتلف وتُشعرنى بالدوار كلما وقف المدرس بجوارها ولفها بأصابعه فى انتطار وقوفها عند نقطة ما قبل أن يشرح المناخ والزلازل والبراكين فى تلك النقطة التى تكاد لا تظهر، ولا أعرفها أين تقع بالضبط.. لكننى كنت أحب حديث جدى الذى لا يعرف القراءة والكتابة عن الشهور والطقس.

يعنى أمشير أبو الزعابير، وطوبة اللى بتخلى العروسة كركوبة، وبرمهات اللى بننزل فيه الغيط ونجيب بصل أخضر وحلبة خضرا.. وغيرهما من عطايا الله لعباده الطيبين.. أحب الحكايات، ولهذا أدمنت قراءة التاريخ وقصص الرجال ومعارك الهلالية فى تغريبتهم الكبرى.. لكن جدى وفى حزم وحسم قال: لا تاريخ دون جغرافيا.. الاتنين مع بعض.. يعنى لما أقولك الهلايل ف تونس لازم تعرف تونس.. ورغم نصيحة الجد لم أحب الجغرافيا ولا مذيعات الطقس.. وحده جمال حمدان أخذنى إليها، ومن يوم ما قرأت «شخصية مصر» لم أعد ذلك الطفل الذى كان.. وكأن تضاريس الجغرافيا هى التى تتحكم فى خطواتى ورحلة عقلى وعيونى عبر العالم.. ربما لأنه عرف كيف يكتب التاريخ على خريطة الجغرافيا فصار معلمى الوحيد الذى أخشاه، وأحب الجلوس إليه فى وقت واحد.. وبسببه أدمنت محبة البلاد.. والترحال.. والأماكن. 

ومنذ أيام، أعلنت هيئة الكتاب عن فوز الشاعر علاء خالد بإحدى جوائز معرض القاهرة لهذا العام.. وتذكرت، مثلما تذكر هو والأصدقاء، أنه شاعر مهم، لكنه كاد ينسى وننسى ذلك بعد أن سحرته الأماكن مثلى طيلة ربع قرن تقريبًا. 

علاء خالد شاعر سكندرى مهم ينتمى لجيل الثمانينيات.. لا يعرف سكة الشِلل وتربيطات وسط البلد.. لم تُصبه لعنة الحداثه فنجا.. وإن كان شعره منقوعًا فى الحداثة.. ولم تأسره القاهرة فظل يعيش فى عروس المتوسط لا يغادرها.. أصابته الساحرة بغوايتها فرَاح يفتش فى أزقتها وعطوفها يبحث عن سر الإسكندر.. وعن كنوزها.. وأدرك مبكرًا أن سحرها من سحر المحروسة، فاتسعت الرؤية ولم تَضِق العبارة.. راح وبجهد فردى يوثّق ما لم تقدر عليه مؤسسات كبرى ويصدر مجلة تكاد تكون الوحيدة فى عالمنا العربى التى تحتفى بسيرة المكان.. وسمّاها «أمكنة».. وظل طيلة هذه السنوات يرحل عبر المدن والريف تسانده عدسة زوجته سلوى رشاد.. يقرأ.. ويرسم.. يخلط الظل بالنور.. فى هدوء حتى كأننا لا نراه.. فقط من يحبون هذه الظلال.. ويبحثون من خلالها عن النور الذى توارى، يبحثون عنه وعن مجلة أمكنة.. ولأنها تصدر بشكل غير دورى.. غابت أحيانًا.. وعادت أحيانًا.. لكنها كانت وستظل سجلًا توثيقيًا مدهشًا لبعض نواحينا وحيواتنا المتعددة.

أحتفى بعلاء خالد فى نفس اللحظة التى يبدأ فيها واحد من أهم انتصاراتنا بإعلان بدء إطلاق إرسال قناة وثائقية من القاهرة.. نتعشم أن تكون لسان حال كل الأماكن.. أن تكون صورة الصامت والمتكلم معًا.. أن تكون الجغرافيا والتاريخ فى لحظة فارقة تمر بها منطقتنا.. ولا نجاة لبحرنا وجزرنا وخرائطنا من تقلبات المناخ إلا باعتصامنا بجذورنا وتاريخنا وهويتنا التى لا يمكن أن يغيرها أو يطمسها الطقس والمتآمرون ما دمنا نعرف. 

الزلازل تحرك الحدود.. والبراكين تطمس المعالم.. والأوبئة تحصد الأرواح.. لكن هوية الأماكن لا ترحل.. نرحل نحن.. والأماكن لا ترحل.. ذلك ما عرفه صديقنا الشاعر اللى قلبه إسكندرانى علاء خالد.. وعلمنا إياه جمال حمدان.. وهو ما أعتقد أن القناة الجديدة سترسمه عبر جدارياتها ورحلاتها فى الأماكن والبشر والأزمنة.. التاريخ يعلمنا أن ما يزرعه البشر يحصدونه.. وأن ما نبنيه يصد الريح والغبار والهالوك.. وأن أبناء هذه البلاد لا يغيرون جلودهم إذا ما اشتد البرد.. وهذا ما يجعلنا نفرح بجائزة علاء خالد وبكل من هم مثله.