رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الراديو المصرى.. أسرار الحياة والجمال

مش محتاج مناسبة للاحتفال والاحتفاء بالراديو.. يوم عالمى للإذاعة هكذا يقول البعض.. لكننى أراه حنينًا حقيقيًا لجزء أصيل فى تكوينى وملامحى وملامح الكثيرين من أبناء جيلى.. الراديو يعنى جدى.. وجدتى.. وملامح غيطان وشتاء وألعاب وخيال لا حدود له يطاردنى من بعيد جدًا. 

لا أعرف لماذا ارتبطت محطات الإذاعة معى بأيام الشتاء والجلوس فوق فرن الخبيز بعد أن تهدأ نارها وصوت مقدم البرامج يعلن بداية مسلسل شويكار وفؤاد المهندس؟.. لماذا هو كل ذلك الحنان فى صوت سيد مكاوى ينقر على طبلته يوقظنا من تحت الألحفة لنتسحر رغم أننا لا نصوم.. نحن الأطفال؟.. لكننا نقلد الكبار ونصحو لنأكل معهم.. لماذا هو صوت آمال فهمى على الناصية التى لم نكن نعرفها، فبلادنا لم تكن فيها شوارع ولا نواص؟.. اسمه الطريق واللقا ع الجسر.. يوم الجمعة حيث أغرب القضايا.. وما يطلبه المستمعون من الأغانى العربية ونحن فى قلب الطشت نمارس طقس الأسبوع الأصيل مع استحمام أسبوعى مؤلم قبل الصلاة التى نذهب إليها فى مسجد البلد الكبير.. امتلأت قريتى بالمساجد بعدها بسنوات، أيام المد الخليجى وبالزوايا، وظل هو المسجد الكبير مسجد الأوقاف الذى يجمعنا يوم الجمعة.. لا أعرف لماذا هو الراديو يعنى صوت فهمى عمر، الذى يذهب بنا إلى الملعب الكبير وماتشات الكرة التى نراها فى حنجرته.. لماذا الراديو هو نفسه ذلك الصندوق الخشب المخرخش نفس حشرجة صوت محرم فؤاد، الذى يصحبنا ونحن نردد نشيدنا الخاص على أعتاب أول قصة حب.. ماشى وسلمت أمرى.. هو عالمنا الذى كنا.. وحين كبرنا أصبحنا جزءًا من تفاصيله.

كنت قد التقيت المدهشة المبدعة هدى العجيمى فى أمسية ببلدى سوهاج وأنا طالب ثانوى.. كنت أعرفها وأتابع تجلياتها فى برنامجها مع الأدباء الشبان.. أعرفهم جميعًا من كل محافظات مصر.. وأعرف من خلالها النقاد الكبار الذين يمنحونهم جواز المرور إلى عالم الأدب.. وبراءة الدخول إلى بوابة السحر والجمال. 

كان حلمًا أن نراها.. أما أن نسجل معها فى برنامجها ويسمع الناس.. كل الناس.. صوتنا فذلك هو الجائزة الكبرى.. وقد حدث.. سمعت ما أكتب ووعدتنى بأن تسجل معى فى أول زيارة للقاهرة ومنحتنى رقم الهاتف لأحدد الموعد وتمنحنى تصريح دخول إلى جنة ماسبيرو.. وهذا ما حدث بعدها بعام أو يزيد بشهور.. ليلة لم أنم فيها مسافرًا فى القطار من قريتى للقاهرة.. وكأننى ذاهب إلى التقديم فى منحة إلى باريس.. على البوابة.. بوابة ماسبيرو يكفى أن تقول إنك ضيف هدى العجيمى.. عشرات يدلونك إلى طريق ستديوهات الإذاعة.. وبجوار مكتبها وبعد أن تنتهى من خمرة سحر ذلك الميكروفون العجيب وجدته.. ومدام هدى تقدمنى له.. فلان شاعر من الصعيد.. ثم تشير له الأستاذ عمر بطيشة.. يا نهار.. وقبل أن تفيق يكون هو قد عزمك على أول كوب شاى فى ماسبيرو.. وترى على جبهته علامات الاستغراب عندما يعرف أنك قرأت له ديوانًا مشتركًا مع نصار عبدالله وشاعر أظنه من السويس وشاعر آخر لا أذكره الآن.. فيمنحك كتابًا جديدًا لشاعر آخر.. وابتسامة ووعد بلقاء جديد عند زيارتك القاهرة مجددًا ويسأل مدام هدى عن موعد إذاعة الحلقة التى سجلتها ليخبر صديق له بموعدها حتى يسمعنى.. ما هذا العالم.. ما هذا المبنى الساحر الذى تخرج من بين جنباته.. هنا القاهرة وكأنها الربيع.. وكأنها البحر.. وكأنها النار.. وكأنها إشارة المجد.. كانت هنا القاهرة.. وستظل.. بكل هولاء.. وبكل تلاميذهم الذين أسسوا كل تليفزيونات ورداوى المنطقة.. وكان ولا يزال الراديو المصرى الذى لم يعد قطعة من الخشب والحنين سيرة شعب عظيم يحب الحياة ويمنحها سر جمالها ودوامها.