رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. محمد الباز يكتب من دبى: كلمة مصر

محمد الباز 
محمد الباز 

- كيف يصوغ الرئيس أفكاره؟ ولماذا يوجّه حديثه إلى الشعوب العربية؟ وماذا تعنى كل هذه الحفاوة به فى القمة العالمية للحكومات؟ 

- ما بين السيسى وبن زايد ليس مجرد علاقات سياسية ودبلوماسية تربط بين زعيمين كبيرين ولكنها علاقة صداقة حقيقية وأخوة تعتمد على أسس صلبة صمدت فى وجه محاولات فتنة وإيقاع ولا تزال

- خلال الدورات السابقة للقمة العالمية للحكومات استطاعت مصر توقيع عدة اتفاقيات أبرزها الشراكة الاستراتيجية لتطوير الأداء الحكومى

الصورة من هنا مختلفة تمامًا. 

يقولون ليس من رأى كمن سمع، وأنا هنا رأيت وسمعت وأدركت كم أن مصر عظيمة، عظيمة وهى فى قوتها، وعظيمة وهى تواجه التحديات وتتغلب على العثرات وتتجاوز العقبات، عظيمة وهى تتحدث عن تاريخها عندما كانت فى عون أشقائها، وعظيمة وهى تتحدث عن حاضرها عندما كان أشقاؤها فى عونها، وعظيمة وهى تتحدث عن مستقبلها، متطلعة بالأمل والقدرة على البقاء إلى امتلاك القادم. 

عندما تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الجلسة الرئيسية للقمة العالمية للحكومات فى دبى، ازددت إيمانًا ويقينًا بأن الله منح مصر ما تستحقه من رئيس على قدر تاريخها ومستقبلها، رئيسًا يدرك تمامًا ما عليه أن يفعله لتنجو مصر على يديه مما يراد بها وهو كثير، ومما يُخطط لها وهو متشابك ومعقد. 

هذه هى الدورة العاشرة للقمة العالمية للحكومات التى تنطلق من أرض دبى، بدأت فى العام ٢٠١٣، فى كل عام كانت تشهد تطورًا كبيرًا، حتى وصلت إلى كل هذا الزخم، والأرقام لا تكذب ولا تراوغ ولا تخدع، بل ترسم صورة واقعية لما يحدث على الأرض. 

فى هذه الدورة من القمة تتقابل وفود من ١٥٠ دولة، يمثلها ما يقرب من ١٠ آلاف مسئول حكومى وقادة فكر يتصدرهم ما يقرب من ٢٥٠ وزيرًا، تعمل إلى جوارهم ٨٠ منظمة دولية وإقليمية، يشاركون جميعًا فى أعمال ٢٢٠ جلسة رئيسية وتفاعلية وحوارية عبر ٦ محاور رئيسية، يتحدث فيها ٣٠٠ شخصية عالمية من الرؤساء والخبراء والمفكرين وصناع المستقبل. 

قبل أن نترك مساحة الأرقام، عليك أن تعرف أيضًا أن القمة التى تأتى هذا العام بمهمة أساسية وهى «استشراف حكومات المستقبل» ستشهد عقد ٨٠ اتفاقية و٢٢ منتدى، وستوزع فيها ٧ جوائز عالمية وسيخرج عنها ٢٠ تقريرًا. 

الأرقام كاشفة، أليس كذلك؟ يمكنك استيعابها والتعرف على ما تحمله من دلالة على ضخامة الحدث وقوته وتأثيره، ولك أن تتخيل حجم الجهد المبذول فى التنظيم الذى تقف وراءه إدارة محترفة، وفرت كل سبل العمل بكفاءة لكل المشاركين والمدعوين إلى القمة. 

وحتى تتمكن من ذلك دعنى أقول لك إن الإحساس الذى يسيطر عليك وأنت تتجول بين جلسات هذه القمة أنك أمام دولة عندما تصل إليها فأنت لا تسافر عبر المكان، ولكنك تسافر عبر الزمن، تتحرك نحو المستقبل، فالمستقبل هو الهم الرئيسى الذى جاء من أجله الآلاف من دول العالم المختلفة، ولأجله يتناقشون ويتحاورون ويقدمون تجاربهم. 

يمكننى أن أدخل معكم إلى ما أريده من عند هذه النقطة «عرض التجارب»... وهو ما يجعلنى أصل إلى مصر ووجودها وتواجدها فى قمة هذا العام. 

خلال السنوات الماضية وعبر السنوات التسع السابقة، كانت مصر موجودة وممثلة، وكانت لهذا الوجود والتمثيل نتائج محددة، فخلال الدورات السابقة استطاعت مصر توقيع عدة اتفاقيات أبرزها الشراكة الاستراتيجية لتطوير الأداء الحكومى، هذا غير اتفاقيات فى مساحات الاقتصاد والتعليم والرياضة، وتم إطلاق البرنامج القيادى لتطوير وتسريع الخدمات الحكومية. 

التواجد المصرى هذه الدورة جاء مختلفًا تمامًا. 

من ناحية فمصر هى ضيف الشرف بما استدعى ذلك تواجدًا وزخمًا ونشاطًا يليق بالمعنى. 

ومن ناحية أخرى فحديث الرئيس السيسى فى جلسة هى الأهم والأكثر تأثيرًا بين جلسات القمة، ليس على المستوى الفنى والتقنى المرتبط بأعمال وأهداف ومدخلات ومخرجات القمة فقط، ولكن للأثر السياسى القومى لما قاله بشفافية وجرأة وشجاعة ووضوح. 

لقد شاءت الأقدار أن تعقد القمة العالمية للحكومات هذا العام ونحن على بُعد أيام من موجة غيوم نسجتها مواقع فتنة، التقطت كلمة من هنا وأخرى من هناك وبدأت تغزل ما أرادت به الوقيعة بين مصر وأشقائها الكبار. 

كانت الآلية واضحة بنفس وضوح الأهداف والغايات والمرامى التى يقف وراءها من يزعجهم أن تكون العلاقات بين مصر ودول الخليج تحديدًا آمنة ومستقرة، وهو ما فطن له الرئيس السيسى مبكرًا، ولأنه اعتاد المواجهة فقد استبق الجميع فى كشف هذا المخطط والحديث عنه علنًا. 

كان الرئيس يتحدث فى افتتاح المرحلة الثانية من مدينة الغذاء «سايلو فودز» بمدينة السادات، وأشار بوضوح إلى أن مصر تقدر علاقاتها الطيبة مع الأشقاء، ولا تقبل الإساءة أو الانسياق وراء الفتن. 

الرسالة كانت واضحة، رئيس مصر يتحدث من مصر يقول للجميع: لو مش هنبنى بلاش نهدم، وعلى الجميع الالتزام. 

نزلت هذه الكلمات بردًا وسلامًا على قلوب من يمسكون بأهمية أن نكون جميعًا صفًا واحدًا، لا يفصل بيننا من يشعل الفتن بالتربص واجتزاء الكلمات والنفخ فى النار، ونزلت نارًا على من كانوا يجهزون الأرض لمعركة إعلامية صاخبة، يخسر فيها الجميع ولا يكسب من وراءها إلا دعاة الخراب وسماسرة الفوضى. 

عاد الرئيس مرة أخرى وهو يتحدث فى الجلسة الرئيسية للقمة العالمية للحكومات إلى هذه القضية، فهى ليست قضية محلية ينتهى الكلام فيها وعنها فى مصر، ولكنها قضية إقليمية، وعلى الجميع أن يعرف موقف مصر، وكيف ترى أشقاءها. 

منذ سنوات وأنا أنظر إلى الرئيس السيسى على أنه المتحدث الرسمى الأول باسم مصر فى كل الفعاليات الدولية، وهو متحدث مخلص وأمين وحريص على أن تصل صورة مصر كما هى إلى العالم، لا كما يرسمها ويروج لها المغرضون والكارهون، وأعتقد أن هذا الدور اختصر كثيرًا من الجهد السياسى والدبلوماسى الذى كانت تحتاجه الدولة المصرية لتنفتح على العالم بعد الحصار الذى ضُرب عليها بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣. 

بمنطق وفلسفة المتحدث المخلص الأمين عرض الرئيس السيسى تجربة مصر، وهى التجربة التى يعتبرها العالم ملهمة، فكيف لشعب كان يقف على حافة الانهيار والإفلاس والضياع والتشرد والتشرذم والحرب الأهلية أن يتجاوز كل ذلك ويستطيع أن ينهض ويقاوم، لا تعرقله صعاب ولا تكسره عقبات؟ 

ركز الرئيس السيسى فى عرضه للتجربة المصرية على ملمحين مهمين، أعتقد أنهما صلب التجربة المصرية. 

الملمح الأول كان فى الرهان الكبير على الشعب المصرى، الذى آمن به الرئيس من اللحظة الأولى، فالتحديات كانت صعبة، وكان السؤال: هل يمكن أن يتحمل الناس؟ وإذا تحملوا فإلى متى يمكن أن يستمر هذا التحمل؟ 

أثبتت التجربة أن الطاقة التى يحتفظ بها الشعب المصرى فى روحه بلا حدود، وهى الطاقة التى استطاع من خلالها أن يهزم كل التوقعات السلبية التى كانت ترى أن مصر لا يمكن أن تستمر، وأن سقوطها مسألة وقت لا أكثر، وهو ما يجعلنى أثق تمامًا أن الأزمة التى نواجهها الآن، ومهما بلغت تبعاتها، نحن قادرون على تجاوزها بنفس الروح المخفية التى تظهر فى اللحظة المناسبة، فهى لا تتأخر أبدًا إذا ما دعيت. 

الملمح الثانى كان فى الدعم الكبير الذى قدمه الأشقاء العرب من دول الخليج فى لحظة وجودية فارقة من تاريخ مصر، كان يمكن لهذه الدول أن تقف موقف المتفرج الذى يشاهد من بعيد فى انتظار ما تسفر عنه الأحداث، ثم يكون بعدها لكل حادث حديث، لكن ولأنها تعرف خطورة أن تكون مصر فى خطر، فلم تتردد فى تقديم يد العون وبلا حدود. 

لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتحدث فيها الرئيس السيسى عن دعم الأشقاء العرب لمصر، قالها كثيرًا فى فعاليات واحتفالات بافتتاح مشروعات قومية، وكان كل مرة يوجه التحية لكن من ساند ومن دعم، نزولًا على قيمة أخلاقية عظيمة يستمدها من الآية القرآنية «ولا تنسوا الفضل بينكم». 

لم ينس الرئيس السيسى أبدًا هذا الفضل، ولأنه يعرف للرجال أقدارهم فقد اختار أن يتحدث كاشفًا للمرة الأولى عن تفاصيل ما جرى، وهو الكشف الذى عرفنا من خلاله الدور الكبير الذى قام به الشيخ محمد بن زايد رئيس الإمارات بعد ٣٠ يونيو- كان وقتها وليًا لعهد أبوظبى- فلم يكتف بتنسيق المواقف مع الدول العربية التى أنقذت الموقف المتأزم، ولكن جاء بنفسه إلى مصر، ليكون هو أول من يلتقى به الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى كان لا يزال وقتها وزيرًا للدفاع. 

هذا الكشف السياسى يضع يدى على حالة الحفاوة المتبادلة والممتدة والدائمة بين الرئيس السيسى والشيخ محمد بن زايد، فما بينهما ليس مجرد علاقات سياسية ودبلوماسية تربط بين زعيمين كبيرين، ولكنها علاقة صداقة حقيقية وأخوة تعتمد على أسس صلبة صمدت فى وجه محاولات فتنة وإيقاع ولا تزال. 

هذه المرة لم يكن الرئيس السيسى حريصًا على تذكير الجميع بدعم الأشقاء لمصر فقط، ولم يكن حريصًا على توجيه الشكر للأشقاء فقط، ولكنه كان حريصًا أكثر على توجيه رسالة للجميع: لا تسمحوا للأقلام والأفكار ومواقع التواصل بأن تؤثر على الأخوة بيننا. 

لقد استمع الجميع إلى ما قاله الرئيس فى كلمته، تحولت عباراته إلى عناوين على صدر الصحف المصرية والعربية، اهتمت القنوات الفضائية العربية والعالمية بما قاله عن التحديات التى نواجهها وعن العلاقات مع الأشقاء التى نحرص عليها، وراحت تبحث عما وراء الكلمات من خلال محللين وخبراء. 

شغلنى شىء آخر فى حقيقة الأمر، فرحت أبحث عما دار فى الكواليس التى أحاطت بلقاء الرئيس وكلمته فى جلسة القمة الرئيسية التى عقدت فى القاعة الكبرى، فقد كان هناك ترقب وانتظار من الحاضرين لهذه الجلسة، وهو ما بدا فى ازدحام القاعة الشديد رغم اتساعها، لم يكن هناك مقعد واحد خال، هذا غير من لم يتمكنوا من الحضور، فقد أغلقت أبواب القاعة ولم يتمكن كثيرون من الدخول، لكنهم حرصوا على متابعة الكلمة وتتبع تفاصيلها. 

من اللحظة الأولى واستقبال الرئيس فى القاعة كان مختلفًا، تم التعامل معه ببروتوكول خاص، فى المكان الذى جلس فيه بين رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد، والشيخ محمد بن راشد نائب رئيس الدولة ورئيس الوزراء وحاكم دبى، وفى عاصفة التصفيق الذى استُقبل بها، وفى حديثه المباشر الذى لم يتقيد فيه بأسئلة مذيع اللقاء فيصل بن حريز. 

قرر الرئيس أن يخاطب الشعوب العربية مباشرة كما تعود أن يخاطب الشعب المصرى مباشرة، لديه رسائله التى يريد لها أن تصل، يعرف جيدًا أن الشعوب تمر بمرحلة ملتبسة، الدول مستهدفة من منصات الشر والكذب والترويج للشائعات، وتحتاج لمن يضع لها دليلًا، وهو ما فعله الرئيس ببساطته وأريحيته ورغبته فى أن يتحدث، فليس أمام الشعوب إلا التمسك بأوطانهم، فعندما ينفرط عقد الوطن لا يلتئم أبدًا. 

فى القمة العالمية للحكومات مناقشات جادة وجدية وجديدة، تقود الشعوب إلى المستقبل من خلال حكومات تجيد فن إدارة المستقبل، لكن يظل مشهد مصر فى القمة هو الأهم بالنسبة لى، لأنه أعاد ترتيب أوراق كثيرة كان هناك من يريد بعثرتها. 

هوامش

على هامش القمة لا يمكن العبور دون توقف أمام اللجنة المنظمة للحدث الكبير، والشباب الذى يعمل باحترافية شديدة، فقد وضعوا جهودهم لتكون الحركة داخل القمة يسيرة وانسيابية، للدرجة التى لا تضطر فيها إلى السؤال، فقبل أن تسأل أحدًا هناك من يجيبك ويعاونك، وكل ذلك فى صمت ودون ضجيج، هذه القمة من أجل الشباب ومستقبلهم، وقد أثبت الشباب أنهم قادرون على إنجاز ما يجعلهم يستحقون كل جهد يُبذل من أجلهم.

تظل الصورة التى تصدرت الصفحات الأولى فى صحف الإمارات الكبرى، والتى يجلس فيها الرئيس عبدالفتاح السيسى بين الشيخ محمد بن زايد والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هى صورة القمة الأهم، بل يمكننا التعامل معها على أنها واحدة من الصور المؤسسة والمؤكدة ليس للحفاوة التى قوبل بها رئيس مصر من قبل دولة الإمارات، ولكن لتأكيد وحدة المصير الذى يستوجب مواجهة كل المخططات التى يعتقد أصحابها أنها ليست مكشوفة. 

فى الإمارات ورغم وجودك بين قاعات النقاش والحوار، كاميرات القنوات لا تتوقف عن الدوران، ومراسلو الصحف لا يكفون عن مطاردة الأخبار واصطياد التصريحات، إلا أنك تشعر بالونس الشديد، ونس يشعرك بأنك لم تغادر مصر، بشاشة ترتسم ملامحها على الوجوه الشابة التى ترحب بك فى كل مكان، وترحيب بود حقيقى غير مصطنع، فالأرواح المحبة لا تتصنع الود أبدًا.