رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الفيلق المصرى».. رحلة نصف مليون مصرى مع المعاناة فى الحرب العالمية الأولى

الفيلق المصرى
الفيلق المصرى

هل نعرف كل شىء عن وطننا؟ هل نعرف الحقيقة كاملة؟ ربما يكون هناك دائمًا ما هو مجهول فى التاريخ بالنسبة للشخص العادى أو حتى لقارئ التاريخ نفسه. فهناك أحداث عفى عليها الزمن بعدما نسيها الناس لكن ما أن يتذكرها شخص فتبعث ذكراها من جديد وينفض غبار الزمن عنها. قصة «الفيلق المصرى» ليست مشهورة فهى لم تُدرس فى المدارس ولم يتم سردها بشكل تفصيلى فى أى كتابٍ من قبل ولم يتوسع أى كاتب فى الكتابة عنها. فهذه القصة تفاصيلها جديدة بالنسبة لى وأعتقد أنه لم يكتب أحد فى مصر عن هذه القصة من قبل، ومن خلال ما قرأت فقد تطرق الكاتب «صلاح عيسى» للحديث عن القصة بطريقة موجزة وبسيطة فى كتابه «رجال ريا وسكينة» وأيضًا ذكر الكاتب «شريف يونس» قصة الفيلق المصرى فى كتابه «ثورة ١٩١٩ نشأة وتبلور الأمة المصرية» فتأتى قصة الفيلق المصرى ومشاركة الفلاحين فى الحرب العالمية الأولى مع الجيش البريطانى كأحد الدوافع والأسباب التى أدت لحدوث ثورة ١٩١٩م وانتفاضة الشعب ضد الاحتلال وسنعرف بعد ذلك تأثيرها الكبير على الشعب المصرى والقومية العربية. 

فى كتابه «الفيلق المصرى جريمة اختطاف نصف مليون مصرى» الصادر عن «دار الشروق» يتتبع الكاتب «محمد أبوالغار» فى ٨ فصول رحلة نضال المجتمع المصرى من أجل التحرر من قيود الاحتلال البريطانى الذى فرض سيطرته على مصر منذ عام ١٨٨٢م، فقد أصبحت بريطانيا تهيمن على الحكم داخل مصر وتتحكم فى العلاقات الخارجية لمصر لكن هذا النضال ظهر فى حلقات متلاحقة بعدما بدأ من حادثة دنشواى وتأسيس الأحزاب السياسية منها: الحزب الوطنى وحزب الأمة ثم الوفد. فظهر أبطال قادوا هذا النضال منهم: مصطفى كامل ومحمد فريد ومصطفى النحاس، وظهرت هذه الثورات على الاحتلال بنتائج إيجابية فزادت من حماسة الشعب المصرى وأمله فى الحرية. لكن ما يركز الكاتب محمد أبوالغار على تأكيده وإثباته فى هذا الكتاب أن النضال لم يتمثل فى تلك الحلقات المشهورة والمعروفة فقط ولم يكن اشتعال ثورة ١٩١٩م سببها مقتصرًا على الرغبة فى الحرية والدستور والبرلمان فقط، فهناك أسباب وعوامل أخرى أدت لاشتعال هذة الثورة خاصة فى الريف وبين قرى الصعيد وقرى محافظات الدلتا بعيدًا عن مدينتى القاهرة والإسكندرية.

فى الفصل الأول من هذا الكتاب يتحدث «محمد أبوالغار» عن أحوال مصر قبل الحرب العالمية الأولى وبدايات النضال الذى تمثل فى صعود مصطفى كامل وتأسيس الحزب الوطنى وبعدها قامت حادثة دنشواى واغتيال بطرس غالى بعدها بفترة. فالوضع السياسى كان مشتعلًا بين بريطانيا ومصر والأدق بين بريطانيا والشعب المصرى فالحكومة لم يكن لها دور فعلى والشعب هو الذى يتصدر الموقف مستعينًا بالأحزاب والشخصيات النضالية المهمة، وقد عبر الشعب عن نضاله فى تلك الفترة فى الصحف والمجلات لكن عندما ننظر إلى الجانب الآخر نرى أن بريطانيا تحاول تهدئة الأمور بإصدار الأوامر والقرارات التى تعهد للإنسان والمواطن المصرى سلامته وحقوقه كإنسان وتحفظ له كرامته. ومع التطورات ودخول بريطانيا فى الحرب العالمية الأولى نكتشف أن ما حدث كان النقيض من هذه التعهدات. 

يتَّبع الكاتب محمد أبوالغار أسلوبًا ممتعًا ومشوقًا فى كتابة هذا الكتاب، فهو يستعين بمذكرات ودراسات وخطابات لمصريين عاصروا تلك الفترة، منهم سعد زغلول وسلامة موسى وعبدالرحمن فهمى وعباس خضر وعصمت سيف الدولة، وضباط اشتركوا فى الحرب العالمية الأولى وعملوا فى الفيلق المصرى واهتموا بكتابة مذكراتهم. وبعد عرض الكاتب لمذكرات هؤلاء الأشخاص يعلق عليها من خلال استنتاجاته ومعلوماته عن الفيلق المصرى وجاءت هذه الاستنتاجات مهمة وصادقة وشديدة الواقعية فى حكمها.

فى الفصل الثانى يذكر الكاتب محمد أبوالغار كيف تم تكوين الفيلق المصرى. حاولت بريطانيا الالتزام بالتعهدات التى اتخذتها على نفسها أمام المصريين وحاولت الحفاظ على الثقة التى خلقتها بينها وبين المصريين لكن عندما بدأت الحرب العالمية الأولى وعند بدء تكوين الفيلق أمست هذه التعهدات منسية تدريجيًا وبالطبع تحطمت الثقة بين المواطن والحكومة البريطانية وتحديدًا بينها وبين الفلاح الذى عانى الكثير من المتاعب أثناء الحرب العالمية الأولى وتكوين الفيلق. فقد تم إجبار الناس على الانضمام إلى الفيلق واستخدام أساليب عنيفة وديكتاتورية بعدما كانت بريطانيا متعهدة بالحفاظ على حقوق المصريين وعدم إشراك مصر فى الحرب.

ويذكر الكاتب محمد أبوالغار أن عبدالرحمن فهمى ذكر فى مذكراته، أن السلطة العسكرية نظمت حملات حامت بها خلال الديار وأخذت فى جمع الرجال وقسرهم على التطوع فى الجيوش التى تحارب الدول العلية. من كان منهم يستطيع الحرب قدموه طُعمًا لنيرانها المتأججة، ومن لم يستطع أقاموه فى صفوف العمال وقسم الأشغال للجيوش المحاربة. والحقائق لم تثبت التحاق أحد المصريين كمحارب ضمن جيوش بريطانيا، ولكن فقط كعمال لخدمة أغراض الجيش. كما أخذت فى جمع الماشية من الأهالى، ووضعت يديها على إنتاج الأرض فى مقابل أثمان زهيدة، وتفرض الشراء فرضًا ووقفت الأمة تنظر إلى هذه الأعمال بعين الأسف، ولكن إنجلترا لم تعترف بذلك ولم ترد الجميل إلى مصر بحقها فى الحرية والاستقلال، ولكن خاف الأمل وضاع الرجاء.

فقد ضم الفيلق أكثر من نصف مليون مصرى أغلبهم من الفلاحين الذين جاءوا من القرى ومن الصعيد وكان هذا فعل استغلالى لقوة الفلاح فى مساعدة الجيش البريطانى واستغلال عدم خبرة الفلاح وجهله فى الضغط عليه ومعاملته بقسوة دون النظر إلى كرامته، وتمثلت مهمة هذا الفيلق فى مد مواسير المياه و مد خطوط السكك الحديدية لمئات الكيلومترات لمساعدة الجيش فى نقل الموارد والغذاء والمعدات. وظهرت جريدة المقطم بالوقوف فى ظهر بريطانيا وإصدار إيجابيات الانضمام للحرب لخداع المواطنين ولانضمام أعداد منهم إلى الفيلق.

وفى الفصلين الثالث والرابع يذكر أبوالغار معاناة الفيلق فى الحرب وانتشاره فى أماكن مختلفة منها فلسطين والعراق ولبنان وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا. لكن أغلب الفيلق انتشر فى فلسطين وصحراء سيناء. يستشهد الكاتب بخطابات الملازم البريطانى فينابلز إلى صديقه فى بريطانيا فى الفصل الرابع من الكتاب ليوضح العلاقة بين أعضاء الفيلق والضباط البريطانيين ومعاناة الفيلق المصرى فى الصحراء وفى حالة الجو التى لم يعتادوا عليها فى مصر حيث فى فلسطين الجو شديد البرودة والمطر فى الشتاء والأرض وعرة والعمل صعب بها لإنشاء سكة حديدية. فالفيلق المصرى عانى من كل أشكال الذل والقهر وجميع أنواع المرض. وفى المقابل كانت عليه مهام كثيرة ويحوز على القليل من الطعام الذى يسد جوعه فقط.

فى الفصول الأخرى من الكتاب يتحدث الكاتب محمد أبوالغار عن دور الفيلق وتأثيره بشكل كبير على تفاقم حالة القهر التى عانى منها الفلاحون والشعب المصرى بجانب العنصرية التى لاقوها من الضباط البريطانيين.