رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الباب الأخضر».. البحث عن «مصر الحلوة اللى بتبرق»!

الباب الأخضر
الباب الأخضر

«المتحدة للخدمات الإعلامية» تُحيى كنزًا مخفيًا من إبداعات الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة

«وما زلنا فى انتظار شهادة الميلاد.. فلكى يعيش الإنسان لا بد أن يكون له اسم.. هوية.. فإلى متى ننتظر عند الباب الأخضر؟».. رسالة اُُختتم بها الكنز السينمائى المخفى: «الباب الأخضر»، ذلك الفيلم الذى كُتب منذ ٣٠ عامًا كاملة، ومرت الأيام والشهور عليه فـ«عتقته» حتى صار «لذة للشاربين»، ننهل منه كما اعتدنا من بحر الإبداع الصافى، ذلك المسمى «أسامة أنور عكاشة».

ظل سيناريو الفيلم فى منزل الكاتب الكبير الراحل، يأبى أن يغادر رفوف مكتبته لسنوات طويلة، حتى قررت نسرين أسامة أنور عكاشة أن يرى النور، لعلها عن طريقه «تطول بصة وشمة» من والدها، الذى رحل عن دنيانا بجسمه فقط فى ٢٠١٠.

لم تجد «نسرين» أفضل من الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية لتحقيق ذلك الحلم، الذى أصبح واقعًا بالانتهاء من تصوير الفيلم وعرضه ضمن فعاليات الدورة الـ٣٨ لمهرجان الإسكندرية السينمائى الدولى لأفلام البحر المتوسط، فى أكتوبر الماضى، قبل عرضه حصريًا على منصة «WATCHIT»، الأربعاء قبل الماضى، وتحقيقه نجاحًا جماهيريًا كبيرًا ليس غريبًا على صاحب «الشهد والدموع» و«ليالى الحلمية» و«زيزينيا» و«الراية البيضا».

«الهوية» هى البطل الرئيسى فى فيلم «الباب الأخضر»، أن تتمسك بهويتك وتحارب من أجلها وتدفع أى ثمن فى سبيلها، ولو كانت الحياة ذات نفسها هى ذلك الثمن.

عبّر الكاتب الراحل عن هذه الفكرة من خلال قصة «عيشة عبدالتواب مصطفى»، الشخصية التى جسدتها باقتدار وحرفية عالية الفنانة المتألقة سهر الصايغ، التى تنطلق من إحدى القرى الريفية إلى القاهرة، بحثًا عن والد طفلها، الذى تزوجته فى وقت سابق عرفيًا، وذلك من أجل الحصول منه على قسيمة الزواج، ومن ثم إمكانية استخراج «شهادة ميلاد» للطفل.

فى القاهرة، تتعرض «عيشة» إلى مجموعة من العوائق و«المطبات»، التى تحول دون تحقيق هدفها، المتمثل فى الحفاظ على هويتها وإثبات شرفها، وقبل هذا حق ابنها فى أن يكون له اسم.. أب.. هوية أو أصل يعود إليه كلما تلهو به الحياة وتسخر.

 

- هننزل فين فى مصر يابا الحج؟

- هنروح عند سيدنا الحسين.. هتنتظرينى عند «الباب الأخضر».. مدد يا سيدنا

عند «الحسين» وما فيه من رمزية واضحة لا تحتاج إلى تفسير، تبدأ حكاية «عيشة»، حيث تم اختطاف ابنها، لتتطور الأحداث من هذه النقطة وصولًا إلى إيداعها فى مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، حيث ينفذ «أطباء» مشروعًا أو تجربة تستهدف «تغيير سلوك البشر.. هويتهم.. أصلهم.. ما يعرفونه ويعيشون من أجله»، تستهدف حتى أن ينسوا ما لديهم.. كل ما لديهم، حتى لو كان فلذة كبدهم. 

وطوال محطات الرحلة، رحلة هذا الوطن وناسه، تتعرض «الهوية» لمحاولات طمس، هذه المحاولات يتخفى أصحابها وراء العديد من المصطلحات، ظاهرها الإصلاح والتقدم، وباطنها الاختراق ثم التدمير الكامل. 

مثلًا، يقول رئيس التحرير أحمد أبوزيد «محمود عبدالمغنى» مبررًا موافقته على إجراء تجارب «تغيير الهوية والسلوك»:

إيه فايدة العلم من غير التجربة؟.. لازم تجرب ولازم الناس تضحى علشان البشرية كلها.. إيه المانع تكون فيه طريقة نجرب فيها على سلوك البنى آدمين؟ ولا أنت عاجبك الحروب وصراع الإنسان مع أخوه الإنسان؟!

فيجيبه «د. شفيع» «إياد نصار» كاشفًا رسالة الفيلم:

وأنت تضمن منين نوايا اللى هيسيطر على سلوك الناس؟

أنت عارف يعنى إيه تغير اتجاهات شعب بحاله بمجرد أنك تحطله عقار بسيط فى أى مادة بيستخدمها بشكل يومى؟

شخص يتحول لحد تانى.. تغير كل انتمائه.. اعتزازه ببلده.. بلغته

شخص يتريق على أم كلثوم.. يصدق إن اللى بنى الأهرامات مش المصريين!

«ملعون أبو الغربة.. ملعون أبو القرش».. يرددها شقيق «عيشة»، فى مشهد آخر، بعدما روى كيف أنه تغرب من أجل «لقمة العيش»، وترك «مصر» وحيدة، فلما عاد إليها من جديد وجد هويتها قد تغيرت، لم تعد «حلوة وجمالها صابح بخيره.. لم تعد فيها ريحة الورق والمطر».. وبالطبع ما وراء ذلك من رمزية لا يخفى على كثيرين، شاهدوا ما فعلته موجات هجرة المصريين إلى الخليج وعودتهم إلى «أرض النيل»، فى النصف الثانى من القرن العشرين. 

وفى مشاهد أخرى، يواصل أسامة أنور عكاشة بمشرط جراح بالغ الدقة تشريح واقعنا المرير، وكيف ارتضى كثيرون منا واقع تغيير هويتنا، طالما الأمور تسير، وكل منا «آمن فى سربه»...

يقول على لسان «د. عباس» «خالد الصاوى»، مدير المستشفى الخاضع لأصحاب مشروع «تغيير السلوك»: «وللأسف أنا حتى مش مجرد بيروقراطى مكبر دماغه زى ما أنت فاكر.. أنا أقل من كده بكتير أنا جباان.. بس كده».

لكن الوضع ليس سوداويًا بالمرة، وما زال هناك أمل، بل إن الأمل خُلق من أجل بلد مثل مصر، تلك التى قالت عنها «عيشة» من فوق جبل المقطم، بعدما اصطحبها إليه «د. شفيع»، وسألها هناك:

- أول مرة تشوفى مصر؟

- شوفتها فى التليفزيون.. فى دار أبويا الحج عوض.. بس مكنتش حاسباها كده

- إيه رأيك فيها؟

- حلوة وبتبرق.. زى الليلة الكبيرة فى المولد

- عايزين يغيروا اسمها بس مش هيعرفوا! 

وكما كانت البداية، على باب «الحسين» أيضًا كان المشهد الأخير، إلى جانب الشيخ حنتس «بيومى فؤاد»، وبائعة البخور «سما إبراهيم»، حيث المصريين البسطاء.. «الشعب الوحيد اللى الغلبان فيه بيعطف على الغلبان»، كما قال أحد المعلقين العرب المشهورين.

هناك حيث الهوية الوسطية، أولياء الله، إسلامنا المصرى، مسيحيتنا المصرية، يهوديتنا المصرية.. ديننا المصرى.. هناك أمام «الباب الأخضر»، وكلنا ذلك الطفل الذى تحتضنه «عيشة» وتبحث له عن شهادة ميلاد.. هناك حيث مصر «الحلوة اللى بتبرق»!