رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما بعد الحنين بمسافة

منذ سنوات قد تتجاوز العشر لاحظت، كما غيرى، أن هناك حالة هروب إلى الماضى تسيطر على الكثيرين ممن نعرفهم، كان الأمر فى البداية طريفًا، مبهجًا، لدرجة أن فكر القادة فى ماسبيرو وقتها فى إصدار قناة لعرض مسلسلات وبرامج زمان. 

وقتها بدا الأمر وكأنه مجرد استثمار إعلامى، وظهرت القناة فعلًا لشهور قبل أن يتم إغلاقها، ثم يعيد أسامة الشيخ إصدارها فى شكلها الحالى ماسبيرو زمان، وبعيدًا عن فكرة عدم التعامل بجدية واحترافية مع هذه الكنوز، استقطبت القناة الكثيرين، فى الوقت نفسه بدأت دور نشر مختلفة فى تقديم ما يمكن تسميته إعادة إنتاج التاريخ، والرواية التى تعتمد على خلفيات تاريخية، ثم تطور الأمر وتلقفت المواقع الإلكترونية الحالة وقررت ركوب نفس القطار وتقديم نفس المادة الإعلامية التى تشبع حالة الحنين إلى ما كان، ومنها إلى الصفحات الشخصية للأفراد، واختلط الأمر على الكثيرين منا حتى تصور بعضنا وترسخ لدى أجيال جديدة من أبناء هذه الأيام أن «زمان» بكل تجلياته كان أجمل. 

استهلكنا هذه المفردات والصور تمامًا من حكام زمان وشباب وبنات زمان، حب زمان، أكلات زمان، بيوت زمان، حتى أصبحنا فى حالة هروب مستمر، الآن نحن فى حاجة لمن يعيد مزاجنا وعجلته إلى المستقبل، لقد استرحنا تمامًا طيلة عشر سنوات فى هذه النوستالجيا حتى أدمناها وذبنا فى مخدراتها، الآن تصفعنا تطورات الاقتصاد وملاعيب التجار لتوقظنا من غفلة الاستغراق فى ملاعيب شيحة والزينى بركات إلى صدمات الأسواق وما فيها، حتى الساسة استغرقوا أنفسهم فى تجارب قديمة ثبت فشلها، يستوى فى ذلك أهل اليمين وأهل اليسار، يستوى فى ذلك من يقدسون كارل ماركس ومن يتمسحون فى أوهام الخلافة، الجميع الآن على موعد فى مفترق الطرق، وحشية ما يحدث فى عالمنا الحقيقى بعيدًا عن تلك الدروشة يحتاج إلى منبهات وصواريخ ومدافع عسانا نصحو، اليوم وليس غدًا، الذين راحوا يبحثون عن أصل لهم ونسب، الذين أغرقوا صفحات الإنترنت بأوهام القبائل والعائلات، الذين يتدثرون بالانتساب إلى الصحابة، الجميع غارقون، حتى إنهم يدخلون فى معارك مع جيرانهم وزملاء العمل والمعارف، بعضهم وصل إلى حد الاحتراب، كل مظاهر الحنين إلى الأمس وأيام الطفولة ذهبت وجاء وقت الإفاقة. المصريون والعرب وغيرهما ممن استسلموا لذلك الحنين المباغت السراق مطالبون الآن بمواجهة واقع قاسٍ ومزعج، الناس لن تأكل من حلة الحنين ولن تدفع مصاريف المدارس وفواتير الغاز والكهرباء من بنك زمان اللى مافيش زيه، وعلى الذين يستغلون هذه الحالة لأسباب ومصالح صغيرة أن يتوقفوا، الجميع يعانى، والهروب من المواجهة لا أحد سيستفيد منه حتى لو بدا أن طرف النار بعيد عن أثوابنا. عند مفترق الطرق ليس هناك أقرب من إشارة صلاح جاهين ودعوته بأن نبص قدامنا، النظر إلى الوراء سواء فى فرح أو بغضب لم يعد صالحًا. وأول السكة، كما أراه، فى حوار حقيقى وجاد يحدد مسارات هذا المستقبل، وبصدق لا أعرف لماذا تأخر الحوار الوطنى كل هذا الوقت؟، حتى إن بعضنا يظن أنه حدث، وانتهى، لماذا كل هذه الأعمال التمهيدية؟، الحرص على أن يخرج الحوار فى صورة طيبة لا يعنى أن نهدر مزيدًا من الوقت، لا أعرف طريقًا آخر سوى الحوار، والمصارحة والنقاش لنصل معًا لأول السكة، سكة العودة من الماضى والذهاب وبسرعة إلى مستقبل مختلف حتى وإن صدمتنا صعوبته فهذا خير وأجدى من النوم فى عسل الحنين إلى ما كان ومضى.