رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«سبيلبرغ».. لا يكذب ولكنه يتجمل

«The fabelmans» هو عنوان آخر أفلام مخرج هوليوود الشهير «ستيفن سبيلبرج»، والذي سيطرح تجاريًا في دور العرض في العالم مع بداية عام ٢٠٢٣.
وعرض ولأول مرة في الشرق الأوسط وإفريقيا في افتتاح فعاليات الدورة الـ٤٤ لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي بعد عرضه العالمي الأول في مهرجان تورنتو، وحصوله على جائزة الجمهور، والفيلم هو أول تعاون بين سبيلبرج والممثل والمخرج العالمي «ديفيد لينش» رغم ظهور كلا المخرجين في هوليوود تقريبًا في نفس التوقيت في السبعينيات.

ويمثل الفيلم- كما صرّح سبيلبرج- خلاصة ٥ سنوات من الخبرة الحياتية، وهو أول فيلم لسبيلبرج يشارك في مهرجانات سينمائية! رغم حصوله على جائزة الأوسكار الأمريكية ٣ مرات ورشح لها ١٤ مرة! فأغلب أفلام سبيلبرج كانت أفلامًا تجارية مثل فيلم «jaws»،
أو «الفك المفترس»، الذي كاد منتجو الفيلم أن يستبعدوه منه، وفيلم «Jurassic park» و«catch me if you can»، ومؤخرًا فيلمه الموسيقي «قصة الحي الغربي»، وفيلم «إنقاد الجندي رايان» الذي يتحدث عن معركة «نورماندي» أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو فيلم دعائي بامتياز للجيش الأمريكي في قالب درامي ذكي، وأداء استثنائي للممثل الأمريكي الشهير «توم هانكس»، تمامًا كالأفلام الدعائية التي صنعها سبيلبرج ذو الأصول اليهودية للكيان الصهيوني، وعلى رأسها فيلم «قائمة شيندلر» الذي يتحدث ويتباكى فيه سبيلبرج على المحرقة اليهودية، وحصد الفيلم جائزتي أوسكار أفضل فيلم وأفضل مخرج، إلى جانب فيلمه «ميونخ» الذي يصب في ذات المياه الداعمة للمظلومية الصهيونية المعتادة، بل ويظهر الفلسطينيون في فيلم «ميونخ» قتلة وأصحاب منظمات إرهابية، أما الجيش الإسرائيلي فهو جيش الدفاع من وجهة نظر الدعاية الصهيونية التي يدعمها سبيلبرج بلا أدنى شك، لذلك أثنت المواقع الإسرائيلية وباركت فيلم سبيلبرج الجديد، واصفةً الفيلم وسيرته الذاتية بالسيرة المرصعة بالماس، وأن الفيلم هو أعظم أفلامه!

وفي فيلم «فابلمانز»، الذي يفتتح بمشهد لسبيلبرج الطفل وهو يجمع بين عائلته والسينما وهم يشاهدون سويًا فيلم «the greatest show on earth» في إحدى دور العرض الأمريكية وكأنه يستعد ويحضر لـ«show» الخاص به وينفتح وينطلق منه على عالمه السينمائي الخاص.. فالفيلم تجربة شخصية أو سيرة ذاتية لسبيلبرج بوصفه صانع أفلام خرج من أنقاض انهيار عائلته التي جملها في فيلمه مهما مر عليها أو انتابها من انهيارات.. وبالطبع جمّل مسيرته هو أيضًا.. وقد سبقه مخرجون كبار في رصد سيرهم الذاتية، ففلليني في عام ١٩٦٣ جسّد سيرته الذاتية في فيلمه الشهير «ثمانية ونصف»، وكذلك يوسف شاهين في أربعة افلام تمثل رباعية حياتية صادقة، كذلك رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري وهي أشهر سيرة ذاتية عربية فيها من الجرأة والصدق والمكاشفة والمصارحة ما لم يسبقه أو يضاهيه فيها أحد، وجسدت رواية «شكر» السينما الإيطالية في فيلم سينمائي جاء متواضعا جدا مقارنة بالرواية، كذلك كتاب لويس عوض «أوراق العمر سنوات التكوين» والذي كنت أتمنى وما زلت تحويله لعمل سينمائي.

أما سيرة سبيلبرج، والتي جسدها في الفيلم الممثل الشاب «Gabrial la belle» وقام بأداء دور «سامي فابلمان» الذي عشق التصوير وكانت كاميرا الهواة هي نافذته على العالم وعلى الآخر ووسيلته لاكتشاف من حوله ورؤيتهم بشكل مختلف «على حقيقتهم».. فالكاميرا فضاحة للوجوه وتعابيرها وحركة الجسد وخلافه. فغيرت الكاميرا وعدستها عالم سامي الشخصي بالكامل وأدرك قدرة الكاميرا المهولة على تغيير نظرته للحياة وللغير وعلاقاته بالآخرين في فترة مراهقته في أعقاب الحرب العالمية الثانية.. فالكاميرا فضحت سرًا عائليًا قلب موازين الكل بمن فيهم هو.. لذلك أهدى سبيلبرج فيلمه لـ«كاميرا السينما» وسحرها الأخاذ وما يمكنها أن تفعل في حيواتنا.. فهي تصنع حياة كاملة متكاملة ليس فقط لشخص واحد بل لمليارات البشر، لنرى على الشاشة ما لا قد نراه في واقعنا المعاش.. فتحقق لنا السينما أحلامنا وخيالاتنا بإبهار غير محدود، وذلك الإهداء كان بالطبع لمحة ذكية جدًا، فهكذا سبيلبرج دومًا ذو ذهن متقد ولا شيء يحدث معه مصادفةً أو من قبيل الصدفة فهو يرى الأشياء ويرينا الأشياء دومًا كما يحب هو أن يراها وأن نراها، وقد يعتقد البعض أن ذلك شيئًا طبيعيًا فالمخرج يفرض ويضع رؤيته «بصمته» على عمله الإبداعي، وهذا صحيح ولكن في حالة سبيلبرج فهو لا يطرح علينا ما يراه وفقًا لرؤيته كمخرج فحسب بل وفقًا لأيديولوجيته الحاضرة دومًا والتي أعتقد أحيانًا أنها المحرك الرئيسي والفعلي لكل ما يفعل وكأنه سخّر موهبته وجهده لخدمة تلك الأيديولوجية والتأكيد، كذلك على انتمائه الديني الذي هو حاضر في أفلامه، وكان حاضراً أيضاً في هذا الفيلم.

فأظهر سبيلبرج عائلته «المنهارة»- على حد تعبيره- في صورة مثالية أخاذه رغم انهياراتها وظهر هو كشاب موهوب طموح شديد الليبرالية والتحضر، فقد قبل بخيانة أمه لأبيه وتركها لهم، أي تركها لعائلتها، وبالطبع لم يقتلها «كما أراد مخرج آخر لشاب فلسطيني أن يقتل أمه في فيلم صالون هدى»، وهو في رأيي فيلم إسرائيلي حتى النخاع وإن كان مخرجه وللأسف فلسطيني! يدّعي حبه لفلسطين ويروج لصورة مثالية ليس فقط عن المجتمع الاسرائيلي بل وعن الموساد الإسرائيلي! وفي المقابل يظهر صورة بشعة وقبيحة للمجتمع الفلسطيني الذكوري المتخلف مقارنةً بالمجتمع الإسرائيلي المتقدم المتمدين! والذي يتشكل من مستوطنين مسلحين يطردون الفلسطينيين كل يوم من بيوتهم ليستولوا هم عليها!

وفيلم «فابلمانز» خلق كذلك ذات الصورة المثالية لجميع أفراد أسرة سبيلبرج اليهودية، بما فيها عشيق الأم وصديق العائلة «العم بيني» الذي خان صديقه مع زوجته.. فالذرائع والتبريرات دومًا حاضرة عند المؤمنين بالعقيدة الصهيونية، وإن بررت ما لا يبرر، بل هي في الأغلب ما تبرر ما لا يبرر.. فوالدة سبيلبرج ورغم تركها لأبيه ولهم من أجل صديق العائلة الذي فرت معه، جعلها سبيلبرج تبدو وكأنها علاقة حب عذرية أفلاطونية غير حسية ولا علاقة لها بالجسد! وبدا الشاب سبيلبرج متحضرًا متقبلاً لتلك العلاقة بنضج وليبرالية.. فهكذا صور هو نفسه وأمه بل وأباه وجعله أيضًا يتقبل علاقة زوجته بصديقه في الفيلم بصدر رحب وتعاطف كبير! وحتى حبيب الأم «العم بيني» فبدا في الفيلم كرجل متزن وحكيم وكريم ولطيف وودود، وكأنهم كلهم عائلة واحدة متماسكة ومحبة لا تغضب ولا تخون ولا تدين بعضها البعض حتى وإن توافرت أركان الخيانة، وهو شيء يتعدى حدود المثالية والمنطق وكأنها اليوتوبيا، بل شيء غير مسبوق، وقد يتفوق في مثاليته على اليوتوبيا ذاتها ولم لا.. فجميعهم ينتمون لنفس العرق ونفس الدين ويحملون نفس الجنسية..
كلهم يهود أمريكيون مميزون، فالأب رجل طموح يعمل في كبريات الشركات الأمريكية العالمية، والأم مبدعة وفنانة مرهفة الحس لديها حدس عالٍ وعازفة بيانو ماهرة.. وهو فتى موهوب مولع بالتصوير والسينما.

أما الشق الخاص بعلاقة الشاب «سامي»، الذي يمثل سبيلبرج بالطبع، بزملائه المسيحيين في المدرسة وتصويرهم على هيئة أغبياء عنصريين يضطهدونه لأنه يهودي ويتهمونه بقتل المسيح! ولا نعرف إن كان كل ما ساقه سبيلبرج في فيلمه واقعا أم خيالا، لكنها بالتأكيد التيمة التي يحبها سبيلبرج ولا يستطيع نسيان أو تجاهل ديانته ومظلومية شعبه المختار سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، كما في فيلم «فبلمانز»، والذي لعب فيه على وتر معاداة السامية واضطهاده كيهودي في مدرسته، حتى قصة حبه مع الفتاة الأمريكية البروتستانتية والتي أظهرها في الفيلم حمقاء ومهووسة دينيًا هجرته وكسرت قلبه الرقيق وكانت تدعوه للمسيحية وتريده أن يملأ قلبه بالمسيح ويدخله لجسده من خلال فمه، ومن خلال طقوس بها هوس ديني ممزوج بالرغبة والشهوة الجنسية! ويظهر المسيح في لقطات عدة بشكل غير لائق نهائيًا وتتحرك الكاميرا بسرعة واضطراب ليظهر لنا تمثال للمسيح معلق في غرفة نوم الفتاة التي جعلها حرفيًا تتحرش به جنسيًا وهي تصلي! ثم يظهر المسيح مرة أخرى في صور معلقة في غرفة الفتاة، والتي جعلها سبيلبرج متناقضة مع نفسها ومنافقة دينيًا وتمزج الطقوس الدينية والصلاة بعلاقتها الجسدية معه في مشهد ساخر وفج، في اعتقادي أنه سيزعج الكثير من المسيحيين في شتى بقاع الأرض وبالأخص البروتستانت الأمريكان والذين لا أعتقد أن بإمكانهم مهاجمة سبيلبرج مهما فعل.. فرءوس الأموال اليهودية المسيطرة على هوليوود، بل والمسيطرة على مقاليد الحكم والأمور في الولايات المتحدة، لن تحمي سبيلبرج فقط كما حمته دومًا بل ستجعله «untouchable»، أي لا يمكن بل ومن المستحيل المساس به بأي حال من الأحوال، فهو ليس مجرد مخرج أمريكي.. إنه الابن الألمعي البار للصهيونية، ويمكن اعتباره وبمنتهى الأريحية آلة حرب دعائية للكيان الصهيوني، فسبيلبرج يسير بأعماله جنبًا إلى جنب مع الدبابات والمدفعية والجرافة الإسرائيلية التي تقتل الفلسطينيين وتشيطنهم وتجعل منهم إرهابيين ومجرمين.
أما الجرائم أو الأخطاء أو السقطات التي يمارسها الكيان المغتصب وأهله فتتجمل وبالضرورة، وتتوارى في رداء من الفضيلة والطهر.

فأراد سبيلبرج لفيلمه ولسيرته وعائلته أن تكون الأشياء على نحو ما ذكرت ليقول لنا: هل رأيتم كم أنا جميل وموهوب منذ الصغر وتغلبت على كل الصعاب ونجحت؟ وكيف كانت عائلتي جميلة ومليئة بالنبل رغم الانهيار وانفصال الأبوين وانفصاله هو عن إخوته؟ على طريقة «لا أكذب ولكني أتجمل».

فاليهود (الصهاينة) دومًا هكذا، ساميون مترفعون هم أبناء «سام» لا «حام».. ولسان حالهم يقول: نحن الساميون فلا تعادوا ساميتنا وعرقنا النقي الفريد الذي ليس كمثله شيء.. وكل ما سبق ينسحب وبالطبع على شعب إسرائيل كله وبالتبعية.. فهو شعب الله المختار وأبناؤه دومًا جميلون ويتجملون وتبرر لهم أفعالهم مهما فعلوا ولا يمكن إدانتهم، وكما تنبأ خال المراهق سبيلبرج له، وأن الفن سيمزقه إربًا وسيكون عليه أن يختار ما بين عائلته والسينما، فاختار السينما التي فضحت علاقة أمه بصديق والده، وأظهرت كذب زملائه في المدرسة وعلاقاتهم السرية ببعضهم البعض، فانكشف ما كان مخفيًا وسعى الجميع لإخفائه، حتى نظرات الأعين وحركة الجسد والشفاه وكل شيء.. وكأن موهبة سبيلبرج عرت الجميع.. فشعلة الفن تحرق دومًا حاملها ولكن يهون كل شيء في سبيلها ومن أجل سحرها الأخاذ، فموهبة سبيلبرج المتقدة لن تخمد لأنه لم يقرر الاعتزال بعد تقديمه سيرته الذاتية كما ظن وروج كثيرون وقت الإعلان عن الفيلم، لكن مسيرة سبيلبرج لا يمكن أن تنتهي في يوم من الأيام أو تكتمل من دون فيلم ذاتي، ولهذا جاء لنا بفيلمه «فبلمانز».