رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دوافع إلغاء وقف إطلاق النار بين «طالبان» والحكومة.. دراسة جديدة عبر المرصد المصري

طالبان
طالبان

أعلنت حركة طالبان باكستان في 28 نوفمبر الماضي، إلغاء العمل باتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه مع حكومة إسلام آباد في يونيو الماضي، وأمرت مقاتليها بشن هجمات في شتى أنحاء البلاد، وفي ترجمة عملية لهذه الدعوة، نفذ عناصر الحركة في 30 نوفمبر تفجيرًا انتحاريًا استهدف دورية للشرطة في مدينة كويتا عاصمة إقليم بلوشستان جنوب غرب البلاد، مما أسفر عن مقتل نحو 3 أشخاص وإصابة 30 آخرين. 

أجرت في هذا السياق، منى قشطة الباحثة بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، دراسة عبر المرصد المصري، لرصد تطورات ذلك الملف، حيث أشارت إلي قيام الولايات المتحدة الأمريكية في الأول من ديسمبر الجاري، بتصريحها أنها ستدرج أربعة من قادة تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية وحركة طالبان باكستان على لائحتها للإرهابيين، ومنهم قاري أمجد القيادي البارز بالحركة والمسؤول عن هجماتها في إقليم خيبر بختونخوا شمال غرب باكستان.

كما ناقشت قشطة في دراستها دوافع قيام حركة طالبان باكستان بإلغاء العمل بوقف إطلاق النار مع حكومة باكستان، والسياقات التي جاء فيها هذا الإعلان، وما يحمله من تداعيات قد تضفي المزيد من الأعباء على التحديات التي تواجه حكومة إسلام آباد، خصوصًا أن إعلان الحركة الأخير يُمكن اعتباره مرحلة جديدة من النشاط الميداني لنشاطها في باكستان. فرغم أن هذا النشاط لم ينقطع قبل إعلان إلغاء العمل بوقف إطلاق النار، وكان مستمرًا بدافع الثأر والرد على ضربات الجيش الباكستاني ضد الحركة، إلا أن الإعلان الأخير تضمن إشارات تشي بتوجه الحركة نحو توسيع النطاق الجغرافي لنشاطها، وتحولها من الاستراتيجية الدفاعية إلى الهجومية في المرحلة المقبلة.

ولفتت الدراسة إلى هشاشة اتفاقيات وقف إطلاق النار: حيث أثبتت الخبرات التاريخية السابقة، أن اتفاقيات وقف إطلاق النار بين حركة طالبان باكستان وحكومة إسلام آباد لطالما وصفت بالهشاشة، ومحاولات الاختراق المستمرة من الطرفين، التي تؤدي في نهاية الأمر إلى انتهاء العمل بها، فعلى سبيل المثال، دخلت الحكومة الباكستانية في نوفمبر عام 2021، بوساطة من حركة طالبان الأفغانية – لمدة شهر- في مفاوضات مع طالبان باكستان لوقف إطلاق النار، ردًا على تصاعد هجماتها المميتة وتوسيع نشاطها وضمها فصائل جديدة، لكن ما لبث أن انتهى الاتفاق عندما اتهمت الحركة الحكومة بخرق اتفاقها بالإفراج عن سجنائها، وهو ما دفعها إلى تنفيذ عدة هجمات في شمال غرب باكستان.

وتابعت أنه في يوليو 2022، أعلنت الحكومة الباكستانية مجددًا أنها تتفاوض مع طالبان باكستان، بوساطة أفغانية، في ثلاث جولات من التفاوض أسفرت عن إعلان الحركة عن وقف دائم لإطلاق النار في 3 يونيو 2022، وفي المقابل أفرجت الحكومة الباكستانية عن اثنين من أعضاء الحركة كانا يواجهان عقوبة الإعدام.

ورغم توافق الطرفان على استمرار التفاوض، لكنهما استمرا بالمقابل في ممارسة بعض الأنشطة التي عدّها كل طرف انتهاك لاتفاق وقف إطلاق النار، حيث قامت الحركة خلال الأشهر الماضية بشن هجمات دامية ضد قوات الأمن الباكستانية والمدنيين، ومن ذلك قيامها في 16 نوفمبر الماضي بمهاجمة دورية شرطة في قرية شهاب خيل شمال غرب البلاد، على مسافة 100 كم من الحدود مع أفغانستان مما أسفر عن مقتل 6 شرطيين. في حين شن الجيش الباكستاني حملة أمنية مكبرة لتوجيه ضربات وملاحقة عناصر الحركة في المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان، فضلًا عن استهداف عدد من قادة طالبان باكستان خلال الأشهر الماضية في مقاطعات ننجهار وكونار وباكتيكا وقندهار بأفغانستان، ولعل أبرزهم أحد أكبر قادة الحركة “عمر خالد خراساني” الذي قُتل في 8 أغسطس الماضي إلى جانب 3 مسلحين تحت إمرته في انفجار قنبلة زرعت على جانب طريق في إقليم باكتيكا شرق أفغانستان، ورغم عدم تبني جهة معينة مسؤوليتها عن مقتله، لكن حركة طالبان باكستان ألقت باللوم على المخابرات الباكستانية، وكانت عملية مقتله أحد العوامل التي اتخذتها الحركة ذريعة لإلغاء اتفاق وقف إطلاق النار مع الحكومة.
 

دوافع قرار الحركة
يكمن وراء إعلان حركة طالبان باكستان إلغاء العمل بوقف إطلاق النار مع حكومة الحكومة الباكستانية مجموعة من الدوافع، يمكن تسليط الضوء على أبرزها فيما يلي:

• فشل المحادثات مع الحكومة، والذي يأتي الإعلان عن إلغاء العمل بوقف إطلاق النار بعد إعلان تعثر المحادثات بين حركة طالبان باكستان والحكومة الباكستانية بوساطة أفغانية في أغسطس الماضي، على خلفية الجمود الذي شاب هذه المفاوضات بشأن رفض الحكومة الباكستانية لمطالب الحركة بفك دمج المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الفيدرالية (مسقط رأس الحركة، ومعقلها الرئيس قديمًا) من مقاطعة خيبر بختونخوا وفرض سيطرتها على المنطقة القبلية، وكان البرلمان الباكستاني قد قام في عام 2018 بتمرير مشروع قانون دستوري من شأنه توفير آلية لدمج المناطق القبلية المسماة تاريخيًا (منطقة القبائل المدارة فيدراليًا FATA) في الأراضي الباكستانية المستقرة، وعلى إثر ذلك أضحت تلك المناطق جزءًا من إقليم خيبر بختونخوا. وفي الجهة المقابلة رفضت حركة طالبان باكستان مطالب الحكومة بوقف العنف ونزع سلاح الحركة وحلّها تنظيميًا.

بالإضافة إلى الرد على استهداف قادتها، وربما يرتبط إعلان الحركة بإلغاء العمل باتفاق وقف إطلاق النار، برغبتها في الثأر لمقتل العديد من قادتها البارزين خلال الأشهر القليلة الماضية على يد المخابرات الباكستانية- بحسب زعمها- حيثُ أفادت بعض المصادر بأن أحد التكتيكات التي انتهجها الجانب الباكستاني لتوجيه الضربات لطالبان باكستان هي محاولة خلخلة جسور الثقة والتعاون التي تربطها بنظيرتها الأيدولوجية الأفغانية، عبر استهداف عدد من قادتها داخل أفغانستان، بما يفتح بابًا للشك قد يفضي إلى توتر في العلاقات بين الحركتين. 

هذا بجانب الحاجة إلى تعزيز مواردها المالية، حيث تعد العمليات التي تشنها طالبان باكستان على الجغرافيا الباكستانية بطاقة مُربحة للحركة، تستطيع من خلالها توظيف أجواء الخوف والهلع الناجمة عنها في ممارسة عمليات الابتزاز بكافة أشكالها والاختطاف من أجل الحصول على الفدية، والتي تُعد أحد أهم التكتيكات التي تنتهجها الحركة لتعزيز مواردها المالية التي يبدو أنها في حاجة ماسة إليها، خصوصًا مع وجود بعض التكهنات حول نقص مصادر تمويلها داخل أفغانستان. حيث تقوم الحركة بعد تنفيذ هجماتها الدامية باستغلال مشاعر الخوف لدي السكان المحليين في ابتزازهم للحصول على الأموال؛ إذ يتعرض الأثرياء والمشرعون المحليون في العديد من المناطق الباكستانية للضغط للتبرع ودفع أموال للحركة، ومن يمتنع عن الدفع يتعرض للعقاب سواء من خلال إلقاء قنابل يدوية على أبوابهم أو إطلاق النار عليهم.

كما شهدت تنامي عناصر قوة الحركة: احتمالية إلغاء العمل بوقف إطلاق النار- الأحادي الجانب- من قبل حركة طالبان باكستان، وإصرارها على مطالبها في المفاوضات مع الحكومة التي باءت بالفشل، إلى أن الحركة تتفاوض من منطلق قوة كبير، فبعد أن تراجع نشاطها في الفترة من 2014 حتى 2018 إثر العمليات الباكستانية ضدها وحرب الطائرات دون طيار، نجحت الحركة منذ عام 2020 وبالتزامن مع توقع اتفاق الدوحة بين حركة طالبان الأفغانية والولايات المتحدة، في استعادة عناصر قوتها وبات نشاطها يأخذ منحىً تصاعديًا مره أخرى، وهو ما يمكن إيعازه إلى جملة من العوامل: أولها، قيام الحركة بتعزيز مكونها البشري عبر ضم عدد من المجموعات المتشددة المعارضة للحكومة الباكستانية، بينها ثلاث مجموعات باكستانية تابعة لتنظيم القاعدة، وأربعة فصائل رئيسة كانت قد انفصلت عن طالبان باكستان في عام 2014، وثانيها، انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان أواخر عام 2021، وهو ما مكن الحركة من الإفلات من وطأة الضربات الجوية الأمريكية التي كانت تستهدفها.

وثالثها، دخول حكومة إسلام آباد في مفاوضات مع الحركة؛ إذ يرى البعض أنها بمثابة “هدنة تكتيكية” مثلت فرصة سانحة لها للملمة قواتها والتقاط أنفاسها للعودة لشن هجماتها بقوة في الداخل الباكستاني. فوفقًا لبعض التقارير أرسلت الحركة خلال وقف إطلاق النار حوالي 1000 مسلح إلى مناطقهم الأصلية، ولكن بدلًا من الانضمام إلى قبائلهم واستقرارهم كما كان يأمل المفاوضون الباكستانيون، سعى هؤلاء إلى إعادة تأكيد سلطتهم في معاقلهم السابقة في خيبر باختونخوا وإعادة تنشيط الخلايا النائمة في أجزاء أخرى من البلاد. 

ورابعها، عودة حركة طالبان الأفغانية للحكم، وسماحها بتمركز العديد من التنظيمات الإرهابية على الجغرافيا الأفغانية، وانتقال تهديدها عبر الحدود إلى جارتها الباكستانية؛ ففي أعقاب السيطرة على كابول قامت طالبان الأفغانية بإطلاق سراح المئات من سجناء طالبان باكستان المحتجزين في سجون كابول من قبل الرئيسين الأفغانيين السابقين أشرف غني وحميد كرزاي، وتظهر مقاطع الفيديو التي تصدرها الحركة الباكستانية – منذ استيلاء طالبان الأفغانية علي السلطة- أن عناصرها وقادتها يتمتعون بحرية حركة في الميدان الأفغاني لا سيما في المناطق الشرقية المتاخمة للحدود الباكستانية، وكذا حصلت الحركة الباكستانية على معدات عسكرية متطورة بعد انهيار الحكومة الأفغانية السابقة بقيادة أشرف غني وذهب جزء من قواتها إلى أفغانستان، التي تستخدمها كمنصة تنطلق منها هجماتها ومقاتليها إلى باكستان.
تصاعد تهديد تنظيم داعش: تخشى حركة طالبان باكستان من محاولات سحب عناصرها لتجنيدهم لصالح تنظيم داعش الذي تصاعدت هجماته في باكستان- مع التركيز على إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان، وإقليم البنجاب شرق البلاد- منذ بدء الحركة مفاوضاتها مع حكومة إسلام آباد في عام 2021. وكان من أبرزها هجوم مسجد بيشاور في مارس الماضي، والهجوم على مقر السفارة الباكستانية في كابول مطلع ديسمبر الجاري.

ورجحت الباحثة أنه قد يستطيع تنظيم داعش توظيف تفاوض حركة طالبان باكستان مع الحكومة لخدمة أجندته الجهادية على مستويات عديدة، ومنها محاولة جذب أعضاء الحركة الذين يشعرون بخيبة أمل من تفاوضها مع الحكومة، من خلال طرح نفسه كبديل جهادي لها، على غرار ما فعل التنظيم في السابق مع طالبان الأفغانية التي استغل سخط بعض مقاتليها من تفاوضها مع الولايات المتحدة في تكثيف جهوده الدعائية لجذبهم لصفوفه. 

وعلى مستوى آخر، ترى أنه قد يسعى التنظيم إلى الاستفادة من بعض الامتيازات التي قد تحصل عليها طالبان باكستان على المدى الطويل في مفاوضاتها مع الحكومة – كخفض عدد القوات الحكومية- في تعزيز صفوفه في شمال غرب باكستان واتخاذها كمنصة لبقية مناطق البلاد، لا سيما أن الخبرات التاريخية المختلفة أثبتت أن التنظيمات الإرهابية بشكل عام وداعش على وجه الخصوص استغلت انخفاض أعداد القوات الأمنية وتراجع جهود مكافحة الإرهاب في العديد من المسارح لشن المزيد من الهجمات، وهو ما يمكن تكراره في باكستان.

الاستثمار في أزمات باكستان: يشي توقيت اختيار حركة طالبان باكستان لإلغاء العمل بوقف إطلاق النار مع الحكومة، إلى رغبة الحركة في استغلال الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والمناخية المضطربة التي تعيشها باكستان مؤخرًا. فسياسيًا، تعيش البلاد حالة من عدم الاستقرار السياسي منذ إقالة حكومة رئيس الوزراء السابق عمران خان في تصويت برلماني لسحب الثقة في إبريل الماضي، وما تلاه من احتجاجات ومشاهد فوضوية شهدتها البلاد على مدار الأشهر القليلة الماضية، وتخللها العديد من أعمال العنف. وعلى الصعيد الاقتصادي، تواجه باكستان أوضاعًا اقتصادية متردية، تفاقمت حدتها جراء تداعيات فيروس كورونا، والفيضانات المدمرة الناجمة عن التغيرات المناخية والتي أسفرت عن غرق ثلث مساحة البلاد هذا العام، وأعطبت الكثير من البنية التحتية، وأزهقت أرواح المئات، وكبدت البلاد خسائر تجاوزت الـ 10 مليارات دولار. 

وفي ختام دراستها، أوضحت أن باكستان ستشهد خلال العام 2023 المزيد من أحداث العنف المرتبطة بتنامي نشاط حركة طالبان باكستان، وإعلانها إلغاء العمل بوقف إطلاق النار، مُستغلة انشغال حكومة إسلام آباد في مجابهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي شهدتها البلاد خلال العام الجاري. ويرجح أن يتوقف مستقبل الصراع بين الحركة والحكومة على فعالية المقاربة التي سينتهجها القائد الجديد للجيش عاصم منير في مواجهة نشاط الحركة، لا سيما أن بعض التحليلات ترى أن هزيمة الحركة عسكريًا عبر عملية عسكرية شاملة قد لا يكون مُجديًا بدرجة كبيرة، بالنظر إلى أن عناصر الحركة في الوقت الراهن لا يتمركزون في منطقة بعينها، وينتشرون بصورة مشتتة، وهو ما يصعب من عملية استهداف عناصرها.