رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سينما النصر.. والانتصارات الكبرى

من يعتقد أن نصر أكتوبر هو لحظة العبور فهو يقزم ما فعله أبطال مصر ولا يدرك حقًا حجم بطولاتهم وتضحياته منذ حرب الاستنزاف وحتى تحرير سيناء، بل ومكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين.
نصر أكتوبر لم يكن عبورًا للضفة الأخرى فحسب، فما نعنيه بملحمة أكتوبر هو حق وأكبر وبكثير من لحظة العبور التى توجت نضال سنوات استنزفنا فيها قدرات ومقدرات العدو ودربنا جنودنا ورفعنا من روحهم المعنوية وكان الشعب ظهيرًا شعبيًا بل وجنودًا كل فى موقعه حتى تحقق النصر وحتى تحررت سيناء من أيادى مغتصبيها بالتفاوض من موقع القوة لا الضعف وحققنا سلام الشجعان المنتصرين والعابرين بثبات وكرامة ودون تفريط.
والسينما شأنها شأن بقية الفنون هى جزء من تلك الحرب وقوة لا يستهان بها، ونعومتها تضيف لقوتها لا تنقص منها خصوصًا لأنها ليست فقط أداة من أدوات التغيير والحراك المجتمعى وتشكيل الوعى التراكمى، بل هى وثيقة تاريخية تبقى وتوثق بطولاتنا وأمجادنا وتضحياتنا وقصصنا الملهمة فتحفظ لنا ذاكرة أمتنا المصرية.
شريط السينما وبمرور الزمن يصبح وثيقة تنطق وتروى للأجيال التى لم تشهد حروبنا ما حدث، فهى شاهد عيان يروى لنا بالصوت والصورة ما حدث، خاصة أن العدو يتفنن ولا يدخر جهدًا لتزوير وتشويه تاريخنا والسطو عليه وقلب الحقائق بفجر يحسد عليه، فالدعاية الصهيونية لا تعرف سوى الباطل الذى تلبسه ثوب الحق فتفضحها السينما الوثائقية التى وثقت وتعرف بسينما الحقيقة والتى يعتبرها البعض أهم من الأعمال الروائية التى تناولت حرب أكتوبر.
فللسينما الوثائقية دور لا يستهان به دون أن ننتقص من قدر السينما الروائية ونعطيها هى الأخرى حقها فكلاهما وثّق ودوّن ورصد وحلل ووصّف أمجاد ستظل خالدة فى تاريخ أمتنا مهما حاولت الدعاية الصهيونية قلب الموازين وجعل ١٠ آلاف جندى منهزم يوازى ويساوى نصر حققه ٢٠ ألف جندى مصري، بل وآلاف غيرهم طوال ستة سنوات من حرب الاستنزاف وهى أنبل الحروب فى تاريخ البلاد قاطبةً.
وسينما «حرب أكتوبر» كما تسمى لا تصنف فقط بين الوثائقى والروائى، بل هى سينما رصدت إرهاصات النصر وبشرت به من خلال أعمال تناولت بطولات الجنود خلال حرب الاستنزاف ثم وثقت لحظة العبور وهى ذروة الانتصار وفاتحة طريق النصر الذى استكمل فيما بعد فى معارك قد لا يعرفها كثيرون نظرًا لضخامة حدث العبور وعنصر المفاجأة وتحطيم أسطورة الجيش الذى لا يقهر وتحطيم ساتره الترابى وسده المنيع وإسقاط خط برليف المزعوم فى ست ساعات، وما تلى ذلك من معارك باسلة ومدن صمدت ولم تمت أو تستسلم.
ولم تغفل السينما كذلك معارك أجهزة المخابرات ودورها الهام الذى لا يستهان به فى صنع وغزل ملحمة العبور والانتصار.. فلولا دور جهاز المخابرات المصرية ما اكتمل نصرنا وما غزلت ملحمتنا البطولية.
كل تلك الجبهات جسدتها السينما على أشرطتها التى ستظل قرينة وشاهدًا على انتصاراتنا وهزائمهم وفور بلوغ النصر.. سارعت القوات المسلحة بتوثيقه فأنتجت ثلاثة أفلام شارك أولها فى مهرجان طشقند السينمائى وحصد جوائز وهو فيلم «الإرادة» للمخرج نبيل البيه تلاه فيلم «الانطلاقة» ليوسف شاهين والذى قدم أيضًا لنصر أكتوبر فيلمه الشهير «العصفور» عن رواية «لطفى الخولى» التى كتبها وهو فى محبسه ومعه «الشيخ إمام» و«أحمد فؤاد نجم» وجسدتها محسنة توفيق وآخرون.. ويبقى فى ذاكرتنا ووجداننا ركضها اللاهث فى شوارعنا بعد النكسة وهى تهتف قائلة «حنحارب» وبالفعل حارب الجنود البواسل وانتصروا وجاءوا لنا بالنصر وتحولت النكسة لأكبر انتصار لنا وأكبر هزيمة لجيش العدو.
أما الفيلم الثالث فكان للمخرج «خليل شوقى» وهو فيلم عنوانه «فى ست ساعات» يروى فيه ملحمة العبور، أما وزارة الثقافة متمثلة فى المركز القومى للسينما وهى جهة الإنتاج التابعة للدولة فقد أنتجت حوالى ١٢ فيلمًا وثائقيًا شارك فيها كبار مخرجى السينما المصرية وشارك وأنتج ووثق مخرجون من سوريا والعراق ولبنان نصرنا على جبهاتهم فنصر أكتوبر كان نصرًا مصريًا بلا أدنى شك، لكنه نصر شرفت به المنطقة العربية ورسخ آنذاك للحمة العربية وفكرة القومية العربية التى انصهرت فى لحمتنا وقوميتنا المصرية التى انتصرت ولم ولن يضاهيها نصر، مثل هذا يفخر به غيرنا، وكان باكورة تلك الإنتاجات فيلم «جيوش الشمس» لعبقرى السينما المصرية الذى وصل بها للعالمية وهو المخرج المصرى العالمى «شادى عبدالسلام» صاحب «المومياء» ومراكب الشمس وجيوشها.. مبدع مصرى حتى النخاع اكتسب عبقرية أجداده القدماء المصريين والتصقت به تلك العبقرية فكان الابن البار لحضارتنا وأمجادنا المصرية التى يشهد عليها الزمان.
ثم أخرج لنا تلميذه ورفيق دربه المخرج «سمير عوف» فيلمًا بديعًا من أفلام أكتوبر المجيدة عنوانه «مسافر للشمال مسافر للجنوب» ثم جاء صلاح التهامى بفيلميه «المقاتل المصرى» و«نزرع مداخن نحصد عدو» و«أحمد راشد» بفيلميه أيضًا «المقاتل سالم» و«أبطال من مصر» ليوثق سير وبطولات جنودنا البواسل وكذلك أخرج المخرج والمنتج المصرى «شريف صبرى» فيلمه «رقصة العبور» أما عبدالقادر التلمسانى فنسج لنا فيلمه «نهاية خط بارليف».
وبعد الانتصار فى معركة الدبابات قدم لنا المخرج «خيرى بشارة» فيلمه «صائد الدبابات» عن المقاتل الشاب «عبدالعاطى» الذى كان يصطاد دبابات العدو كمن يصطاد هاموشًا أو جرذانًا سرعان ما تدخل لمصيدته، وهو أكبر برهان على عظمة ونضال وبطولات أبنائنا فى القوات المسلحة.
ولم تكن معركة الدبابات هى الأخيرة ففى يوم ١٤ من أكتوبر كانت معركة القوات الجوية واستمرت المعارك حتى ٢٨ من أكتوبر وصمدت مدن القنال أمام عدوان المعتدين، فصمدت مدن السويس والإسماعيلية وبورسعيد ووثق لذلك فيلم «مدن لا تموت» ووثق الراحل «حسام على» بطولات أخرى فى فيلمه «ثلاثية رفح» وتصدى المخرج الكبير حسين كمال لفيلم تسجيلى مهم ظهرت فيه نجمتنا سعاد حسنى والشيخ إمام كان عنوانه «ما أخذ بالقوة».
وإلى جانب سينما الحقيقة الوثائقية سارت الإبداعات الروائية على خطاها وبشكل متوازٍ وكان لمحمد راضى وعلى عبدالخالق نصيب الأسد من تلك الافلام الحربية الخالدة فى ذاكرتنا التى بدأت مع المخرج «على عبدالخالق» فى رائعته «أغنية على الممر» وهى تجربة يعتبرها النقاد «عمله الأيقونة» الذى أخرج من رحم تلك التجربة كل ما تلاها من أفلام حربية.
وأشهرها كان فيلم «الرصاصة لا تزال فى جيبى» عن قصة لإحسان عبدالقدوس قدمها للسينما المخرج «حسام الدين مصطفى» وأنتجها المنتج المصرى الوطنى المثقف «رمسيس نجيب» وأنفق على الفيلم من ماله الخاص.
وجميعنا يعلم ويدرك أن ميزانية الأفلام الحربية مكلفة إجمالًا لذلك أفصح لنا «رمسيس نجيب» فى مذكراته وحواراته عن إفلاسه بعد إنتاجه لهذا الفيلم الخالد فى ذاكرتنا وذاكرة أمتنا المصرية بل وذاكرة العدو الذى قهر وانهزم مهما راوغ ودلس، فشريط السينما شاهد على هزيمته وانتصارنا، وكان للفنان «محمود ياسين» نصيب الأسد من أفلام حرب أكتوبر إذ شارك ومثل فى حوالى ٩ أفلام تضاف لرصيده الكبير.
وكما أنتج وانفق رمسيس نجيب من ماله الخاص أنتجت لنا مارى كوينى فيلم «بدور» وأنتج وأخرج «حلمى رفلة» فيلم «الوفاء العظيم» كما أنتج فريد شوقى فيلم «بورسعيد» ومثل فيه وأنتج أيضًا فى عام ١٩٦٤ فيلمًا عنوانه «الجاسوس»، أما «غالب شعث» فصنع لنا فيلمًا تحدث فيه عن «الظلال على الجانب الآخر» ولا يمكن أن نغفل كذلك دور المخرجة «أنعام محمد على» فى فيلمها البديع «حكايات الغريب» و«الطريق إلى إيلات» وهو أول فيلم حربى تتصدى لإخراجه امرأة على مستوى العالم العربى بل والشرق الأوسط وكان فيلمًا من إنتاج قطاع الإنتاج فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصرى.
أما أفلام الجاسوسية فغزل لنا «كمال الشيخ» فيلمه الأيقونة «الصعود للهاوية» والذى جسدت فيه قصة الجاسوسة «هبة سليم» ودور المخابرات المصرية فى الإيقاع بها وحماية بلادنا التى انتصرت وحررت أراضيها واستردتها بالكامل، ومن رحم تلك التجربة ظهرت أعمال أخرى تحاكى تلك التيمة وتتحدث عن انتصارات أخرى لجهاز المخابرات المصرية فى أفلام مثل «إعدام ميت» و«بئر الخيانة» و«فخ الجواسيس» و«مهمة فى تل أبيب» و«٤٨ ساعة فى تل أبيب» و«فتاة من إسرائيل».
على الجانب الآخر، أسهمت الدعاية الصهيونية الموجهة وأنفقت ملايين الدولارات على فيلم لمخرجة أمريكية تدعى «سوزان سونتاج» والتى أخرجت فى عام ١٩٧٤ فيلمًا بعنوان «الأراضى الموعودة» وعرضته فى سوق الفيلم فى «مهرجان كان» وشاهده آنذاك وكتب عنه ناقدنا الاستثنائى الناقد السينمائى الكبير الأستاذ سمير فريد وقامت دولة الكيان الصهيونى بعرض الفيلم فى عرضه العالمى الأول يوم ٥ يونيو.. وبالطبع لهذا التاريخ دلالته!
وبعد ٢٦ عامًا وتحديدًا فى أكتوبر من عام ٢٠٠٠ قام مخرج إسرائيل المدلل والذى يعتبر ترسًا فى آلة الحرب الدعائية للصهيونية العالمية وهو المخرج «آموس جيتاى» بإخراج فيلمه «كيبور» والذى تحدث فيه عن أثر الهزيمة الموجعة على المجتمع الإسرائيلى وجيشه لابتزاز المشاعر والتعاطف كعادة الصهاينة وطبائعهم المعهودة فى نسج المظلوميات ولكن الفيلم - وعلى أقل تقدير - يعترف بالهزيمة الموجعة لإسرائيل وانتصار جيشنا عام ١٩٧٣، ثم توالت الأفلام الإسرائيلية التى تناولت حرب أكتوبر من وجهة النظر الإسرائيلية بالطبع والتى ظهرت فى أعمال مثل «يوم حاديم» و«الشتاء الأخير».
وفى ٤ يونيو عام ٢٠١٩ وبعد ٤٦ عامًا من انتصارات أكتوبر تنتج القوات المسلحة والشئون المعنوية فيلمًا للأجيال الجديدة ولجيل الوسط الذى لم يعش تلك الحرب ولم يشهد انتكاساتها ثم انتصاراتها ليكون وثيقة درامية جديدة تخلد ذكرى الانتصارات وتثبت ان بطولات الشعب والجيش لم تنته وأن تلك الانتصارات ما زالت ملهمة وأنه علينا الاعتناء بالمستقبل والتيقظ للآلة الدعائية الصهيونية المغرضة والتى لا تقل خطورة عن آلة الحرب.. وتصر على إنكار كل شىء وتنسب الإنجاز دومًا لنفسها والإخفاق للغير فهى تكسب معاركها بالدعاية الكاذبة والإلحاح فى الكذب حتى تصديقه!
ويطل علينا بين الحين والآخر المتحدث العسكرى باسم الجيش الإسرائيلى بزيه العسكرى ليحدثنا عن المحبة والأخوة والسلام وينسب كل شىء صغيرا كان أم كبيرا لبلاده بما فى ذلك الأزياء والطعام والأغانى والتى هى تراث لفلسطين وبلاد الشام ومصر.. فالسطو والإنكار هو ما يعرفه الإسرائيليون جيدًا ويتقنونه حتى إنهم يرون أن جيشهم هو جيش الدفاع لا الغزو والهجوم والاحتلال والتهجير والقتل والذبح.. وتلك أكذوبة مضحكة لن تنطلى وتنتهى على الفور مع كل انتهاك واعتداء أو اغتصاب جديد يمارسه جيش الإحتلال الإسرائيلى ضد المدنيين العزل فى فلسطين لذلك كان فيلم «الممر» عملًا هامًا ظهر فى توقيت هام.
ووصل لجمهوره المستهدف فى دور العرض وحقق إيرادات كبيرة وكان عرضه العالمى الأول فى تاريخ ٤ يونيو «وللتاريخ أيضًا دلالته» ثم التفت الأسر المصرية حول الفيلم أمام شاشات التلفاز عند عرضه بشكل أوسع.. وفى عام ٢٠٢٢ تنتج الدولة أيضًا عملًا فنيًا ملحميًا غزل لنا خلال ٣ ساعات صفحات مشرفة من بطولات الشعب والفدائيين والمقاومة الشعبية المصرية الباسلة ضد الاحتلال الانجليزى كى لا تنسى أجيال اليوم وجيلنا والأجيال القادمة مقاومتنا الشعبية للعدو وللاحتلال ولتسجل لنا وتوثق جرائم الاحتلال فى حق بلادنا وما قدمه شعبنا من تضحيات وشهداء.. فالنصر مخضب بالدماء ويحمل فى أياديه المخضبة تلك نبتة السلام الخضراء.. سلام الشجعان والمحاربين والبواسل لا سلام الانسحاق أو المنبطحين.