رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وماذا بعد جولات وزير الصحة؟

منذ وقت غير قليل أصابنى الإحباط، فلم أعد أكتب عن المرافق العامة وأحوالها فى بلادنا.. أصابنى ما يشبه اليأس أيضًا.. لم يعد الأمر مجرد الرغبة فى الإشارة إلى خلل ما حتى يتدخل المسئول المباشر أو مَن هم أدنى منه لإصلاح ذلك الخلل.. ذلك الشعور لم يكن وليد صدفة.. فمنذ سنوات ليست قليلة وفى بداية تجربتى فى هذه المهنة كنا نستمتع بفكرة أن نكتب عن إصابة ما أو عطب ما فيحدث رد فعل طيب فى هذه الجهة أو تلك.. لدرجة أن معظم صحف مصر وقتها كانت قد خصصت صفحة للقراء ومشاكل القراء وزاد الأمر فى بعض الصحف أن خصصت ملحقًا كاملًا لشكاوى المواطنين.. وعرفنا نجومًا من باب مشاكل المواطنين وعلى رأس هؤلاء عمنا الراحل عبدالوهاب مطاوع.. إلى هذا الحد كانت هذه المسافة الموصولة بين الكاتب والقراء.. الصحيفة والقراء، فاعلة لدرجة انتشار نوع من الفن الصحفى فيما تلا ذلك سميناه «صحافة المواطن».

اختفت صفحات القراء من الصحف قبل عصر الإنترنت بقليل.. ولم يعد المسئول يهتم بالصحف مثلما تركها المواطن تندب حظها وفقرها وهجرانها وحلت الصفحات الشخصية بوسائل التواصل محلها تحقق قدرًا من التنفيس عما يشكو منه الناس لكنها سرعان ما تحولت إلى مندبة ومناحة وهجص وقلة أدب.. لم يعد الأمر إعلاميًا على الإطلاق .. ولم يجد المسئول.. أى مسئول، شيئًا حقيقيًا ليتابعه أو يحقق فيه.. ومنذ ما يقرب من العامين.. بدأت وحدات الرصد بوزارة الداخلية ومكتب النائب العام تمارس عملًا مدهشًا ورائعًا فى هذا السياق.. فشعر المواطن- وأنا مواطن فى الأصل وأحب أن أبقى كذلك- بأن تغييرًا يحدث فى إطار التعامل مع مشكلات الناس.. وزاد الأمر فأصبحت هناك وحدة بمجلس الوزراء.. تتابع وترصد.. وتتدخل لحل مشكلات متعددة فى أوقات متلاحقة. 

إحساس الناس بوجود من يعبرهم ويعبر عنهم فى صورة النائب العام أو الداخلية أو مجلس الوزراء جعلهم يزيدون من إقبالهم على التواصل مع هذه الوحدات وأعاد إليهم ما انقطع من «ود» بعد اختفاء صفحات الشكاوى والقراء والصحف نفسها لكن إحساسهم المتزايد بأنه لا جدوى من الشكوى ظل به بعض التشكك رغم كل هذه الطفرات.. وأظن أننى مثلهم أيضًا ارتحت لوجود هذا الخيال فى ذهنى.. حتى فاجأنى وزير الصحة د. خالد عبدالغفار الذى انتقل رسميًا ليتولى أمر هذه الحقيبة المتخمة بأحزان وأوجاع الناس وبمشكلات ثقيلة فى أروقة واحدة من أتعس وأهم وزارات مصر.. فاجأنا وزير الصحة بجولات ميدانية متعددة ومتتالية على مدار شهرين وفى البداية ظن البعض منا أن الأمر مرتبط بتعديل حكومى- له شدة- بعدها ستعود الأمور إلى طبيعتها المعتادة وسيعود الوزير إلى مكتبه فى الديوان.. اعتقدنا، وبعض الظن إثم، أنها البروباجندا، لعنة الله على من اخترعها.. لكن الوزير فاجأ الجميع بتكرار جولاته التى اختصت محافظات الصعيد- الفيوم ومن بعدها أسيوط.. ثم انتقل لأماكن أخرى.

لفت نظرى فى البداية فى هذه الجولات أنها لم يكن مرتبًا لها.. ولم يعرف بها المسئولون فى المستشفيات التى تفقدها الوزير.. هذا الأمر غالبًا ما ينتج عنه اكتشاف الواقع الذى يشكو منه الناس وهو ما حدث.. وفى كل المرات كان الوزير ساخطًا وغاضبًا من الأحوال.. رغم تأكيده هو شخصيًا لمن رافقه من الإعلاميين أنه يعرف أن حال الصحة والمستشفيات ليس على ما يرام وأننا فى بداية طريق الإصلاح الذى يحتاج إلى سنوات، لكنه شدد على ضرورة تقديم الخدمة للمواطنين والتعامل مع ما يعانونه بشكل فورى وعاجل لأنهم إما مرضى أو من أهل المرضى ومطالباتهم حقيقية والاستجابة لها فرض وواجب.. أعجبنى أداء الوزير فى تلك الجولات وبخاصة وقوفه ساعات طوال لسماع المواطنين بلا تكلف والتعامل الفورى مع ما يصدحون به.. والأهم أن أنباء تلك الزيارات أتت بجدوى لدى الموظفين والمواطنين معًا.. الموظفون فى معظم مستشفيات مصر الآن يتوقعون وصول الوزير فى أى لحظة، والمواطنون بعضهم يتمنى لو أنه هبط الآن فى المكان الذى يقيمون به.

ملفات وزارة الصحة وقد تابعتها لسنوات من أيام الوزير إسماعيل سلام واقتربت منها بشدة زمن الوزير عوض تاج الدين وحتى الوزير حاتم الجبلى.. ملفات متخمة.. مترابطة.. وكأنها سلسلة من البيروقراطية المتوارثة من أيام الفراعنة.. ومهما بلغت الرغبة فى الإصلاح فهناك عدد لا مهول من المستفيدين من بقاء الأحوال على ما هى عليه.. لكننى أشعر بأن الرغبة فى التغيير أعلى هذه الأيام.. هذا العدد الهائل من المستشفيات التى يتم تجديدها وتأهيلها وتزويدها بالأجهزة الحديثة يدل على أننا نقتحم بطن هذا الملف بغرض هدمه وإعادة بنائه من جديد.. وتلك المستشفيات الضخمة المبنية حديثًا ولم يتم افتتاحها بعد سواء التابع منها لوزارته «الصحة» أو وزارة التعليم العالى تؤكد حاجتنا الماسة إلى هذا التغيير.. وما تحدثه جولات الوزير تلك أمر غاية فى الخطورة والأهمية لاكتشاف حاجاتنا الحقيقية بعيدًا عن «كله تمام يا فندم. وجاهزين سعادتك».

هذه الحالة «الصحية» نحتاجها من الجميع.. تلك اليقظة وذلك الانتباه.. المعلومات الحقيقية على الأرض.. صوت الناس الذى يصل خالصًا نقيًا بلا فلترة.. كل ذلك يدعونا إلى عدم الاستسلام للإحباط، ويعيد للأطباء والممرضين والعمال مكانتهم، فليسوا كلهم من عينة «البيروقراطية المضروبة والفاسدة».. هناك الكثيرون الذين يعشقون مهنتهم وخدمتهم لكنهم مثلنا كان قد تسرب اليأس إليهم.

فى معظم هذه الجولات أصدر الوزير قرارات بتحويل بعض المتكاسلين والمذنبين إلى تحقيقات عاجلة وقد أصدر أوامره بإيقاف بعضهم عن العمل حتى انتهاء تلك التحقيقات.. فماذا جرى بعدها؟.. نحن نريد استمرار هذا الإحساس لدى الكل.. الموظفون والمواطنون على السواء.. تلك الجولات حققت جانبًا طيبًا من أغراضها، لكن الجانب الأهم يظل فى استمراريتها وفى عقاب هؤلاء بالفعل حتى يرتدع الجميع من ناحية.. وحتى يتعشم المواطنون مجددًا فى حكومتهم ويراسلونها ويشكونها ما يقاسونه من متاعب موجودة ولا ينكرها إلا المستهترون والمرضى الذين يخدعون أنفسهم.

لقد بنت الحكومة فى إحدى المحافظات الصعيدية مستشفى ضخمًا ورائعًا يخدم ثلاث محافظات دفعة واحدة.. به مئات الأسر.. وتكلف المليارات حرفيًا.. وقبل تسليمه للتشغيل سأل مسئول قاهرى المدير المسئول فى تلك المحافظة: جاهزين؟.. فكان الرد: «جاهزين» وهو أمر على غير الحقيقة.. نعم المبانى اكتملت.. والتجهيزات اكتملت.. لكن الذين سيقودون الخدمة لم يتم تجهيزهم وأعدادهم لا تكفى.. وبدلًا من أن يخبر المسئول من يسأله بحقيقة الأمر فضل أن يقول: «جاهزين» ليحيل الأمر فيما بعد بإلقاء المسئولية على تابعيه ليتصرفوا.. لكن الأمر فى النهاية عبثى.. أشير لهذه القصة لأؤكد مجددًا أن جولات الوزراء ليست للشو.. وليست عبثًا.. والناس تشعر بأى تحرك جاد لخدمتهم ويقدرونه.. وعلينا أن نبرز ذلك ونشير إليه.. وهذا ما حدث مع خالد عبدالغفار الذى لا يواجه المرض فقط.