رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

72 ساعة من أجل المستقبل

لا أعرف عن عالم الاقتصاد إلا ما أحتاجه منه.. تلك المصطلحات الكبيرة التى يدشنها الخبراء لا أستسيغها وأظن الكثيرين من أهلنا فى بر مصر مثلى.. يديرون مؤشر التلفاز إلى جهات أخرى كلما سمعوا تلك الأرقام أو شاهدوا خبيرًا من هؤلاء.. فما هو الحال إذن وقد وجدنا أنفسنا.. نحن المواطنين فى العالم كله مربوطين فى شجرة اسمها الاقتصاد.. نتجرع ما تنتجه لنا مهما كانت مرارته.

هذه المقدمة لا بد منها ونحن ننتظر ما ستسفر عنه حوارات ٧٢ ساعة أراها الأهم والأخطر فى هذه الأيام، لا أحد يقابلك فى أى شارع فى مصر الآن لا يهتم بعالم الاقتصاد.. ربما هو لا يدرك مفاهيمه ونظرياته وأطروحاته.. لكنه يدرك تمامًا أن كل ما يتحرك فيه ويعانى منه ويعيشه أصبح الآن مرهونًا بما يجرى فى هذا العالم.

ربما هو لا ينتظر أن يسمع كلامًا كبيرًا حتى وإن كان من أهم العقول.. مصريًا وعربيًا وعالميًا.. الناس فى بلادى أبسط من ذلك بكثير، هم يحتاجون لمن يخبرهم كيف نستطيع عبر هذه المناقشات والأفكار السيطرة على ذلك الغول الذى اجتاح العالم، ولا مهرب من ضرباته الموجعة.. كيف تتوقف الأسعار عند هذا الحد؟.. هو لا يريد أن يسمع كلامًا عن العلاقة ما بين سعر الصرف والتضخم والأسعار.. هو يريد قرارًا عاجلًا من الحكومة للتعامل مع هذه الأسعار.. وأى حوار لا يعيد إلى هؤلاء الناس الطمأنينة هو حديث بعيد عن عقولهم وقلوبهم التى أتعبها الخوف من ذلك المجهول.

لقد اتخذت الحكومة قرارًا طيبًا منذ أيام تجاه الارتفاع غير المبرر فى أسعار «الأرز»، وأقرت أن يكون البيع بسعر ١٢ جنيهًا للأرز السائب و١٥ جنيهًا للأرز المعبأ.. فماذا حدث فى الشارع؟.. التزمت المحلات بالقرار فعلًا.. وبذل رجال «التموين» جهدًا طيبًا لتفعيل القرار.. لكن بعض أصحاب الشركات لم يعجبهم ذلك الأمر.. بعضهم قال مبررات تبدو منطقية من عينة: أنهم حلقة متأخرة فى سلسلة تبدأ من عند «الفلاح» الذى يرفض توريد «الشعير» بأسعار أقل من «التكلفة» لأنه فى هذه الحالة سيخسر.. وأيضًا المضارب وما بعدها من حلقات.. يبدو الكلام معقولًا وحقيقيًا.. فماذا حدث؟! لقد أجبرت المضارب المشترين على كتابة سعر فى الفاتورة والدفع خارجها بسعر مختلف، لكن المحلات لا تستطيع أن تفعل ذلك.. فما كان من الشركات الكبرى إلا أن أحجمت عن العمل.. أو تكاد تكون توقفت.. ومن ستر الكريم أن هناك أكثر من شركة تعمل فى هذا المجال وجدت فرصة طيبة لتوزيع منتجاتها الأقل سعرًا.. وقد لجأ إليها المواطن الذى لا يستطيع أن يدفع ٢٤ جنيهًا فى كيلو أرز لمجرد أنه «جيد التعبئة والتغليف».. هذا المثال هو مجرد إشارة عن الاقتصاد الذى يريد أهلنا الحديث عنه الآن.

يناقش المؤتمر الذى تجرى تفاصيل جلساته على مدار ثلاثة أيام، بمشاركة واسعة من رجال الأعمال والقطاع الخاص، كيفية إنتاج «بيئة عمل جيدة ومستقرة».. وحسنًا أن وضعت الحكومة ذلك الأمر على أجندة المؤتمر.. لكن الحكومة نفسها ملومة من وجهة نظر المواطن العادى، لأنها كثيرًا ما تؤخر إنجاز ما تحتاجه هذه البيئة من تشريعات.. ويضربون مثلًا بذلك القانون الذى يجرى إعداده منذ شهور وهو الخاص بالمصالحات.. حيث إن الكثيرين من أهلنا ومن العاملين فى قطاع التشييد والبناء ينتظرون خروج القانون على أحر من الجمر.. لكنهم يتوجسون أيضًا مما يسمونه بلوائحه التنفيذية التى تمنح لموظفى المحليات فرصة أخرى لتعطيل المراكب المتوقفة أصلًا.. يحتاج القانون من وجهة نظرهم إلى ستة أشهر حتى يصبح واقعًا على الأرض يمكن التعامل معه.. فلماذا تصدر الحكومة من الأصل قوانين تحتاج إلى لوائح تنفيذية تشرح كيف يتم تطبيقها.

لست من أولئك الذين بلغ بهم الحال إلى التعامل بلا مبالاة كاملة مع هذا المؤتمر، وأرى أنه فرصة طيبة لسماع أصوات متعددة ومختلفة، فالأمر لا يتعلق باحتياجات عاجلة خصص لها المؤتمر محورًا كاملًا.. لكنه يتعلق بالمستقبل.

أنتظر مثل غيرى أن أعرف.. فعدد كبير من مشاكلنا يحدث لأننا نفتقد إلى المعلومات.. نفتقد إلى المعرفة.. تلك المعرفة هى التى تحدد المسارات وتعيد الثقة للمستثمر، سواء كان مصريًا أو عربيًا أو منتميًا لكيان اقتصادى دولى.. الاقتصاد وفيما نفهم يقوم وبشكل أساسى على «مناخ ثقة».. فلا يمكن لأى مستثمر أن يغامر بأمواله صغيرًا كان أو كبيرًا فى أجواء غير مطمئنة.. هو يحتاج لأن يصدق أن تغييرًا كبيرًا قد حدث فى عمليات التراخيص وما شابه.. أن يصدق أن مصنعه سيجد عمالًا مهرة وبسعر عادل.. وأن منظومة الضرائب التى يتم تطبيقها فى البلاد عادلة.. وأن منتجه سيجد طرقًا آمنة للتصدير ولبيوت المستهلكين المحليين.. الأمر برمته حلقات متصلة.. وبالقطع لن يخرج المؤتمر بقرارات يتم تنفيذها فى اليوم الرابع لانعقاده، لكنه حتمًا سيرسم خارطة طريق يحتاجها أهل الصناعة والتجارة والمواطنون وربما الحكومة أيضًا.

يبقى أن يعرف الناس ماذا دار فى هذا المؤتمر؟ وأعتقد أننا نواجه صعوبة شديدة فى ذلك فى ظل مناخ فوضوى خلقته السوشيال ميديا التى عودت الناس على «الترند».. عشاق الترند وخناقات حسام وشيرين لن يجدوا ما يرضيهم أو ما يلهيهم فى جلسات مثل ذلك المؤتمر.. هؤلاء المشغولون بتجليات هالاند وتفاهات عبدالله رشدى وأمثاله لن يجدوا غايتهم فى أخبار وحوارات المؤتمر الاقتصادى.

وأخيرًا.. ليس أمامنا سوى «العلم» و«التخطيط» وخبرة رجالنا وعقولنا لننجو من ذلك «العبث» الذى سيطر على العالم كله فى السنوات الأخيرة.. ليس فقط لننجو من أزمة اقتصاد خانقة لم يشهدها العالم منذ ما يزيد على مائة عام.. ولكن لنعرف كيف نذهب إلى المستقبل.. كيف يعيش أبناؤنا ويسعدون؟