رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مظلوميات كاذبة

يمكن وصف الوضع الآن فى بعض دوائر السوشيال ميديا بأنه عبارة عن ثنائية دائمة بين «العاملين» و«المتصيدين»، بين أجهزة الدولة المختلفة وبين مجموعات من «اللابدين فى الذرة».. كلما تحرك بلدوزر فى مشروع تعالت الصيحات للتحذير من تدمير التراث وهدم المبانى القديمة وتغيير معالم القاهرة.. إلخ، حتى صارت الأسطوانة نفسها محفوظة ومكررة.. شائعات مكررة تظهر بطريقة منظمة وتنشرها كتائب إلكترونية وتستهلكها قبائل من المحبطين أو غير المدركين أو من يريدون «جنازة ويشبعوا فيها لطم».. كلما تحرك مسئول لتطبيق القانون تصاعدت الشكوى والبكائيات والمظلوميات، وتطوع بعض المزايدين بآراء لا تسمن ولا تغنى من جوع بحثًا عن الوجاهة أو الشعبية أو الظهور فى صورة المعارضين رغم أنهم يطلبون الرضا آناء الليل وأطراف النهار.. كلما أزيلت شجرة لتوسعة شارع انطلقت سيمفونيات البكاء رغم أن القاهرة من أعلى مدن العالم تلوثًا منذ عشرين عامًا على الأقل.. والشجرة التى تم خلعها لتوسعة الشارع لن تحل هذه المشكلة العويصة التى لا يعرف من يبكى على الأشجار كيفية حلها ولكنه لا يريد أن يرحمنا قليلًا وأن «ينقطنا بسكاته».. أنا أعرف قيمة الأشجار طبعًا.. ولكنى أعرف الفارق بين النقد الحقيقى وبين المزايدة، وأشهد أن معظم ما أراه مزايدة فارغة ومكايدة سياسية وعمل لجان منظمة بعضها معلن وبعضها خفى.. لكل شىء ثمن والتطوير أيضًا له ثمن.. من المستحيل أن تظل شوارع تم تخطيطها وعدد سكان القاهرة ٢ مليون فقط على نفس حالها وعدد سكانها يقترب من ٣٠ مليونًا!! إن هذا شىء مفهوم بالعقل والمنطق والفطرة والبصر والبصيرة.. وعوضًا عن ذلك فهناك خطة تم الإعلان عنها لزراعة مليون شجرة فى المناطق الصحراوية والطرق الجديدة والأماكن التى تتسع لذلك.. وفى الحالتين فإن الأكسجين الذى ستنتجه الأشجار سيصعد لطبقات الجو العليا لنتنفسه جميعًا بغض النظر عن مكان هذه الأشجار.. هذه النظرة المتربصة هى التى تدفع صاحبها لإدانة إنشاء حديقة عملاقة فى العاصمة الإدارية لمجرد أن مكانها لا يعجبه رغم أن حزب أصدقاء الأشجار يجب أن يفرح لإنشاء مثل هذه الحديقة التى تحمل اسمًا لا أفهمه هو «النهر الأخضر».. لكنه التربص والغرض والهوى.. هذا التربص هو الذى يدفع من صدّعونا بضرورة احترام القانون لإقامة بكائية بسبب إزالة سلطات حى إمبابة إشغالات مطعم شهير، رغم أن الرجل يخالف القانون مخالفة واضحة، ورغم أن لديه من الأرباح ما يكفل له بناء عدة مطاعم مطابقة للاشتراطات القانونية والصحية، ورغم أنه ماديًا وقانونيًا ليس ضحية على الإطلاق ولكنها الرغبة فى البكاء على أى شىء وكل شىء.. نفس الأمر يتكرر بحذافيره مع شائعة نقل مبنى ماسبيرو للعاصمة الإدارية الجديدة فى مقر أكثر تطورًا بكل تأكيد.. ليست لدىّ معلومة واضحة بخصوص النقل من عدمه ولكن هناك نوعًا من الخلط بين «تراث ماسبيرو» وبين «مبنى ماسبيرو».. تراث ماسبيرو هو كل ما تم إنتاجه منذ ١٩٦٠ من برامج ومسلسلات وسهرات.. إلخ، وهذا التراث يجب أرشفته وحفظه ورقمنته والحفاظ عليه مشهدًا مشهدًا ولقطة لقطة.. وللأسف فقد تعرض كثير من الأعمال للسرقة وخرج خارج المبنى على يد بعض العاملين فى ماسبيرو نفسه! وتعرضت شرائط نادرة للمسح بسبب قلة الإمكانات أو ضيق العقول فى عهود ماضية.. هذا التبديد لا علاقة للمسئولين الحاليين به وقد تم على مدى الثلاثين عامًا الماضية ولم نكن نسمع أصواتًا عالية بالاعتراض.. ومع ذلك أنا لست مع نقل المبنى أو عدم نقله.. أنا أرصد فقط حالة صناعة المظلومية وتعميم سوء الفهم.. التراث فى الأعمال الفنية وليس فى الأماكن.. وربما فى المخاطبات والذكريات والخبرة المهنية لدى من بقى من جيل الرواد.. وهذه تنتقل مثل أى خبرة بالتعليم المباشر للأجيال الأحدث عبر الدورات أو المحاضرات فى كلية إعلام أو غيرها.. لقد عملت فى ماسبيرو لفترة من الوقت وكلنا نعلم أن التعيينات فيه فى آخر ثلاثين عامًا لم تكن وفق المعايير المهنية.. وأن الأمور فيه ظلت تتدهور من سيئ إلى أسوأ على غير رغبة الجميع.. وأن أهل ماسبيرو أساءوا التصرف فى فترات الفوضى التى أعقبت يناير ٢٠١١ ورفضوا عمل أى إعلامى من خارج المبنى، مما قضى على أى فرصة لجلب الإعلانات وتحقيق فرص مشاهدة عالية.. ومع ذلك فما أعرفه أن الحقوق الوظيفية لأبناء ماسبيرو مصانة.. ولا أحد يجادل فيها.. لكننى أتوقف فقط أمام ممارسات اللجان الإلكترونية، سواء عبر بث الشائعات أو قلب الحقائق أو المغالطة فى فهم الواقع أو تشويه مشاريع التطوير وإظهارها على غير حقيقتها.. رغم أن التطوير هو سُنة الحياة.. والقاهرة التى نحبها ونعيش فيها حاليًا بنيت على أنقاض مدينة أقدم منها، والمدينة الأقدم منها بنيت على أنقاض مدينة أقدم.. وعمارات وسط البلد التى نحبها وندعو للحفاظ عليها بنيت بعد هدم فيلات وقصور كانت موجودة فى المنطقة.. ومع ذلك فإن نتيجة الهدم ثم البناء كانت أكثر من رائعة.. وما تم بناؤه على أنقاض القديم أصبح هو نفسه تراثًا ندعو للحفاظ عليه، وهذه هى سُنة الحياة التى لا يفهمها البعض.. أو بمعنى أصح يفهمها ويدّعى أنه لا يفهمها لغرض فى نفسه.