رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى فقه السياسة

فى العام الثامن هجريًا فتح المسلمون مدينة «مكة».. وتمكن الرسول «صلى الله عليه وسلم» من أعدائه الذين آذوه بالفعل وبالقول واعترف الجميع بسيادته.. وقف على ربوة عالية وسأل أهل مكة: «ماذا تظنون أنى فاعل بكم؟»، فقالوا: «أخ كريم وابن أخ كريم»، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.. بمعنى أنه أصدر عفوًا عامًا عن أعدائه باستثناء حالات قليلة رأى أنهم يجب أن يقتلوا لما ألحقوه من أذى به وبالإسلام.. فيما بعد قال الرسول لأهل مكة: «خياركم فى الجاهلية.. خياركم فى الإسلام.. إذا فقهوا».. بمعنى أن التاجر الناجح أو العسكرى الناجح أو السياسى الناجح فى الجاهلية يمكنه أن يعمل ويفيد الدولة الجديدة ما دام سيحفظ مبادئها ويفهم «أيديولوجيتها» ويخدمها بإخلاص.. فى هذا الموقف ستجد أن الرسول «صلى الله عليه وسلم» فكّر كرجل دولة.. أنه فى حاجة لأن يستوعب الجميع.. وفى حاجة لأن يوظف الجميع فى خدمة الدولة الجديدة الناشئة.. وهو يتعالى عن خصومة الماضى ما دام الذين أخطأوا قد اعتذروا وخضعوا واعترفوا بشرعية الدولة الجديدة وأبدوا رغبتهم فى خدمتها.. وهو يفرق بين من لا يمكن إصلاحهم ولا ضمان لولائهم فيأمر بقتلهم «حتى لو تعلقوا بأستار الكعبة»، لأنه يعرف أنه لا عهد لهم ولا أمان.. وبين من يمكن استيعابهم داخل الدولة الجديدة الفتيّة وتوظيفهم لخدمتها.. ذلك أن الرسول كرجل دولة يدرك أن الدول تقوم على أصحاب الكفاءة وليس على المخلصين فقط.. فما بالك بزمننا الحالى وهناك من يدّعى الإخلاص كذبًا وبحثًا عن مصلحة.. لقد ظل خالد بن الوليد، رضى الله عنه، فى معسكر الكفار ثمانية أعوام كاملة بعد الهجرة، وأسلم قبل فتح مكة بقليل، وكانت عبقريته العسكرية سببًا فى هزيمة المسلمين فى أُحد وفى إصابة الرسول الكريم نفسه ومقتل عمه حمزة وهو منه بمثابة «رئيس الأركان» والسند وأحب الناس إليه.. لكن الرسول «صلى الله عليه وسلم» نسى كل هذا وفكر فى استفادة الإسلام من عبقرية خالد بن الوليد العسكرية.. فرحب به وأسند له الأدوار مرة بعد مرة فإذا به يثبت كفاءته، وإذا بقدراته التى تم توظيفها فى خدمة الدولة بعد أن اعترف بشرعيتها تسهم فى تحويل الدولة إلى إمبراطورية.. وإذا به يجترح المعجزات فيهزم المرتدين ويفتح العراق والشام خلال شهور قليلة.. إنه هنا كفاءة تم توظيفها فى مجالها لإفادة دولة يتم تأسيسها.. رغم أنه بسبب انشغاله فى مجاله العسكرى لم يكن يحفظ من القرآن إلا القليل.. هل كان يمكن للرسول «ص» أن يقول إن عبدالله بن مسعود يحفظ القرآن كله وإنه يجب أن يقود الجيوش بدلًا من خالد بن الوليد؟؟ لو فعل هذا لما كانت هناك دولة من الأساس.. لأن ابن مسعود رجل ضرير لا يمكنه قيادة الجيوش رغم «إخلاصه» و«ولائه» وسبقه للدعوة.. إننى أروى هذه الوقائع بمناسبة حالة الحوار الوطنى وما يستتبعها من قبول العناصر التى اعترفت بشرعية الدولة المصرية وأعلنت اعتذارها وإقرارها بالخطأ.. إننى أثق تمامًا أن كل حالة تتم دراستها على حدة.. وأنه لا يمكن المزايدة على الجهات المختصة فى عملها.. وأثق أيضًا أنه لا بد من تأسيس جبهة وطنية بقيادة الرئيس السيسى للعبور بمصر إلى بر الأمان.. وأنه لا بد من الاستفادة بالخبرات النوعية للمصريين جميعًا ما داموا قد مروا بالمراحل اللازمة التى تؤهلهم للاندماج فى العمل الوطنى إذا أرادوا.. وأقول إنه فى السياسة لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة ولكن توجد مصالح دائمة كما قال ونستون تشرشل ذات يوم.. لقد كان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، مؤسس دولة يوليو، يدرك هذا، وضم للدولة عناصر من أحزاب وجماعات مختلفة كانت ضده ووظفهم لخدمته.. وعندما اشتعل الصراع بينه وبين الاتحاد السوفيتى اعتقل أعضاء التنظيمات اليسارية.. وعندما انتهى الصراع تصالح معهم بعد أن حلّوا تنظيماتهم السرية وأعلنوا تأييدهم له وأدمجهم فى مؤسسات الدولة المختلفة وأفاد كثيرون منهم المجتمع فى مواقعهم، وكان منهم كبار المثقفين مثل محمود أمين العالم ولطفى الخولى ومحمد سيد أحمد ورفعت السعيد الذى ظل يخوض معارك الدولة حتى النفس الأخير، وكان أكثر إفادة للدولة ممن لا يملكون سوى الهتاف.. لا يوجد يسار الآن بهذا المعنى ولا يمين أيضًا بالمعنى القديم.. ولكنى أضرب المثل حول كيفية استيعاب الخصوم وتحويلهم إلى حلفاء أو ما هو أكثر.. نريد أن نتحلى جميعًا ببعد النظر.. ونتوقف عن المزايدة على بعضنا البعض.. وأن نثق فى صانع القرار.. وأن ننظر للمصلحة العامة لا إلى مصالحنا الشخصية الضيقة.. ذلك أن مصر تستحق منا ذلك جميعًا.. والله من وراء القصد.