رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حاجتنا إلى النظر بعمق

فى ظنى فإن أكبر مشاكل العقل العام فى مصر هو السطحية.. أو النظر إلى سطح المشاكل لا إلى عمقها.. إلى مظهر الأشياء لا جوهرها.. نفعل ذلك فى التدين مثلًا فنحوله إلى طقوس ومشاوير إلى المساجد وسفريات بالطائرات إلى بيت الله الحرام وإلى حساب للحسنات وفق جدول الضرب «الخطوة للمسجد بحسنة والحسنة بعشر أمثالها» وكأننا فى محل تجارى أو بنك وليس بين يدى الله.. نفعل ذلك فى الزواج أيضًا فنحوله من سكن ومودة إلى قائمة منقولات ومؤخر ومقدم وشيكات بنكية ومن ملزم بماذا؟ وأفراح فى القاعات الفخمة، ولا نهتم بجوهر الزواج نفسه وهل سيكون الزوجان بعد كل هذا سعيدين معًا أم لا؟؟ لأننا نهتم بالمظهر دون الجوهر وبالسطح دون العمق.. نفعل هذا أيضًا فى دراسة أبنائنا، حيث يهتم الغالبية العظمى منا بأن يدخل الابن أو الابنة كلية قمة رغم أن سعادته ونجاحه قد يكونان فى كلية «قاع» وفق ترتيب مكتب التنسيق الذى أردناه ضمانة للعدالة فأصبح ضمانة للفشل وانعدام الشغف أو أصبح مثالًا للعدالة العمياء إن شئنا الدقة.

ألحّت علىّ هذه الفكرة وأنا أرى طوفانًا من المنشورات على «فيسبوك» يجتهد أصحابها من المواطنين فى تقديم نصائح لإنعاش السياحة فى مصر.. وفى الخلفية أزمة العملة الصعبة والأزمة الاقتصادية العالمية بالطبع.. هذا توجه محمود من المواطنين، لكن كل هذه المنشورات التى تتفاوت فى لغتها ومدى سخط أصحابها على الأوضاع تتسم كلها بالسطحية الشديدة.. أحدها كتبه سفير سابق يحوى ملاحظات محترمة حول ما اعتبره أسباب نقص السياح فى مصر، منها مثلًا «عدم تمكن السائحين من استخدام المواصلات العامة مع أبناء الشعب» أو «عدم وجود حمامات عامة كافية فى الشوارع» أو «المضايقات التى يتعرض لها السواح فى الشوارع» و«سوء أخلاق بعض سائقى التاكسى» و«سوء حال بعض المواقع الأثرية».. إلخ.. كل هذه الملاحظات سليمة وإيجابية ولكنها لا تنفذ فى عمق المشكلة.. ولو أننا فى بلد أوروبى أو آسيوى لأمكن للمسئول أن ينفذ كل هذه الملاحظات فى أسبوع إذا رغب.. فينصلح الحال.. وتتعدل الأحوال.. وتجرى دولارات السياحة فى عروق الاقتصاد ونعيش جميعًا فى «ثبات ونبات» كما كانت تقول الحدوتة القديمة.. لكن جذر المشكلة للأسف ليس هذه السلوكيات ولكن الجذر الثقافى لتدهور السياحة هو ثقافة التطرف الدينى التى أغرق هذا البلد بها بفعل فاعل، ثقافة العداء للآخر وكراهيته وتكفيره، ثقافة الحسبة والحشرية واعتقاد المسلم المصرى أن من حقه التدخل فى سلوك الآخرين، ثقافة «نساؤهم سبايا لنا» التى تجعل المصرى العادى يعتقد أن من حقه التحرش بالأجنبيات ومضايقتهن، ثقافة «الغرب عدو صليبى كافر» التى زرعها بعض مدّعى التدين عبر المساجد والمنابر وملايين من شرائط الكاسيت خلال نصف قرن أسود من عمر هذا الوطن، ثقافة تحريم العمل فى الأماكن السياحية التى روّج لها غربان التطرف عبر الآلاف من الوسائل الإعلامية، ثقافة استحلال أموال السائحين باعتبارهم كفارًا لا يريدون بنا سوى كل شر.. وأخيرًا وليس آخرًا ثقافة تنظيمات الإرهاب التى ظلت تضرب أتوبيسات السواح عامًا بعد عام وتتربص بها فى حقول الذرة وأمام المتاحف ووصلت إلى قمة فُجرها فى حادثة الدير البحرى ١٩٩٧، وغيرها من الحوادث البشعة.. ثم يأتى شخص يجلس فى التكييف ويمسك بالموبايل موديل ٢٠٢٢ ويكتب تعليماته للحكومة كى تتحسن الأحوال وتصبح عال العال!! هذا أكبر نموذج لسطحية النخبة المصرية ولجهل المتعلمين فيها «ما كانش حد غلب» إذن كما كانت تقول لى أمى، رحمها الله.. من يريد أن يغير ويصلح فعلًا عليه أن ينزل إلى العمق.. إلى الجذور.. أن يحارب ثقافة التطرف والتخلف والحشرية والجهل والنطاعة التى ستجدها وراء أزمة السياحة كما هى وراء أزمة انفجار السكان كما هى وراء أزمة الصناعة ووراء كل أزمة نمر بها ويكتفى باشوات النخبة بمصمصة الشفايف تجاهها أو إبداء آراء سطحية وساذجة وركيكة كحلول عبقرية لها، ثم تبادل التعليقات حولها على طريقة «محدش عاوز يسمع يا مون بيه»!! علينا أن ننظر للعمق إذا أردنا حل مشكلتنا أو على الأقل نتوقف عن الثرثرة ونترك من يعمل يعمل.