رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منع الاصطياد فى «الماء العكر»

شئنا أم أبينا فإن مشاريع تطوير الحدائق لها حساسية خاصة.. هذه الحساسية قد تكون مصنوعة أو مبالغًا فيها، ولكنها فى كل الأحوال موجودة ويجب احترامها.. قد يستخدمها الإخوان الإرهابيون.. لكنك لا تستطيع أن تتهم كل من يتحدث عنها بأنه إخوان.. وقد يستخدمها الانتهازيون وخدم الفساد.. لكنك لا تستطيع أن تتهم كل من يتحدث فيها بأنه انتهازى.. إنها قضية يختلط فيها تأكيد السياسى بالرغبة فى الحفاظ على التراث واحترام الخضرة والإبقاء على ملامح القاهرة القديمة.. والحل هو فى التعامل بالاحترافية الواجبة سواء فى الإعلان عن التطوير المزمع وملامحه وتفاصيله وفوائده بشفافية كاملة وقبل أى أحد.. الفكرة هنا أن المحافظ أو المسئول يشرع فى العمل مباشرة.. يرى الناس آثار العمل قبل أن يكتمل المشروع.. فيتخيلون صدقًا أو كذبًا أن ما يرونه هو المشروع ويبدأون فى الصراخ والاعتراض والبكاء والحديث عن ذبح الأشجار وتبوير الأرض... إلخ.. فى حين أن المشروع ما زال أمامه شهور وربما أعوام ليكتمل ويتم الحكم عليه حكمًا نهائيًا.. الاحترافية وعلم التسويق السياسى يقول عكس هذا.. يقول إن على الحكومة أن تبادر بالإعلان عن مشروع تطوير حدائق أنطونيادس فى الإسكندرية مثلًا.. بتكلفة كذا وبهدف كذا وأن التطوير سيستغرق وقت كذا.. تمامًا كما حدث فى مشروع تطوير المنطقة المحيطة بالهرم مثلًا.. أعلنت التفاصيل قبل بدء العمل فاطمأن الناس لما يحدث ولم يجرؤ أحد على الادعاء بأن الحكومة ستبيع هضبة الهرم مثلًا!! أو ستبنى فيها شققًا سكنية! لأنه تم الإعلان من البداية عن أنه سيتم بناء مطاعم ومرافق سياحية لخدمة زوار الهرم.. الفكرة أن تكون أنت الفعل وليس رد الفعل.. أن تكون صاحب المبادرة.. حدائق أنطونيادس حدائق جميلة مثل أى حدائق.. لكنها مغلقة منذ سنوات ومهملة بشكل ما.. وأنا من عشاق الإسكندرية ولى عشرات الأصدقاء الإسكندرانية لم يذكر أحدهم لى الحدائق بخير أو بشر.. ولم يرشحها أحدهم لى كمَعلم من معالم الإسكندرية لزيارتها.. ولم يدعُنى أحدهم للتنزه فيها على مدى عشرين عامًا كنت أزور فيها الإسكندرية بانتظام طوال العام.. بل إننى قرأت كل ما كتب عن علاقة الأدباء بالإسكندرية فلم أسمع أن الأستاذ نجيب محفوظ مثلًا زار هذه الحدائق خلال أشهر الصيف الأربعة التى ظل يقضيها هناك طوال أعوام.. ومع ذلك فقد انتشرت مئات المنشورات تتحدث عن هذه الحدائق وروعتها وتاريخها ومدى الجرم الذى يتم ارتكابه فيها!! وأنا أقول إن المسئول عن التطوير مخطئ.. ليس لأنه فكّر فى التطوير ولكن لأنه لم يعمل بشكل احترافى ويعلن عن المشروع قبل البدء فيه، وهذا أسلوب ربما كان يصلح فى السنوات الماضية، لكنه ربما أيضًا غير مناسب لحالة الحوار الوطنى التى دعا لها الرئيس وبدأت فعاليتها.. الإعلان عن المشروعات وإشراك الناس فى أفكار التطوير هو أحد أشكال الحوار المجتمعى ويأتى بنتائج إيجابية.. وأعتقد أن حوار د. مصطفى مدبولى مع أهالى القاهرة الفاطمية قبل البدء فى تطويرها كان حالة نموذجية لهذا الحوار.. ولم نسمع عن مشاكل أثناء التطوير.. وهذه سُنة حسنة مطلوب اتباعها فى كل مشروع تطوير.. وفوائدها أكبر من أضرارها، وهى عمل احترافى من الطراز الأول يُلام المسئول عن المشروع إذا بدأ العمل على الأرض دون الإقدام عليه.. من جهة أخرى.. لفت نظرى أن الدكتور نزار الصياد، أستاذ الجغرافيا فى جامعات الغرب، قد نشر صورًا فوتوغرافية لحالات هدم أو ربما إزالة أشجار داخل الحديقة.. من الوارد طبعًا أن تنقل الأشجار التاريخية من مكان إلى مكان، ولكن هذا جعلنى أفكر أيضًا أنه يجب التفكير فى حلول معمارية تحافظ على طابع المكان التاريخى.. ربما من المناسب مثلًا بناء المرافق السياحية بالخشب أو بمواد سابقة التجهيز أو صديقة للبيئة.. وهذه كلها أفكار تخدم التطوير.. وتراعى قلق الصادقين فى قلقهم من جهة وتُخرس ألسنة الصائدين فى الماء العكر من جهة أخرى.. أقول هذا لأنى من المؤمنين بأن التطوير هو سُنة الحياة، ومع زيادة عدد السكان بهذه النسب الكبيرة فلا بد من التفكير فى إقامة بعض المرافق داخل الحدائق التاريخية كخدمات إضافية بشرط أن يكون ذلك على حواف هذه الحدائق أو فى مناطقها الخدمية المخططة منذ زمن، وبشرط أن يكون التصميم والبناء منسجمًا مع المحيط العام للمكان وبخامات طبيعية، وبشرط أن يعلن عن التطوير قبل البدء فيه.. لنطمئن قلب القلقين ونبطل كيد الكائدين والمدّعين وأظنهم فى مثل هذه الحالات يكونون الأغلبية.. والله أعلم.