رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صناعة الفتنة على الـ«سوشيال ميديا» «1»

هناك محاولة لأن ينقسم المجتمع لثنائيات «رجل- امرأة».. «ليبرالى- متطرف».. «غنى- فقير»

من يسعون لصنع الفتنة بين المصريين كلهم أعضاء فى جماعة مصالح واحدة تحركهم وتمولهم أيدٍ لا تريد الخير لهذا البلد

ليس من المصلحة إذكاء نيران العداء بين الرجل والمرأة عبر الفيسبوك وعبر الدراما

لا أدعى أننى أقرأ الغيب، ولا أقول إنه يتاح لى من المعلومات ما لا يتاح لغيرى من الصحفيين، ولكننى أعتز بقدرة قديمة على قراءة ما بين السطور، واستشراف ما خلف الكلمات مهما بدت بريئة أو عفوية أو لا رابط بينها وبين بعضها البعض.. ومن خلال متابعة دقيقة لوسائل التواصل المختلفة، التى غدت «ديوان العصر» شئنا أم أبينا، أقول إن ثمة جهدًا منظمًا لصناعة الفتنة بين المصريين والتركيز على ما يفرق لا على ما يجمع، وعلى الأسود دون الأبيض، وعلى كل ما يثير الفرقة والخلاف على أساس طبقى «الأغنياء- الفقراء»، أو على أساس النوع «الرجل- المرأة» أو على أساس الموقف الفكرى «ليبراليون- متطرفون» أو على أساس الدين أحيانًا «مسلمون- وأقباط»، وأقول بعد متابعة طويلة إن هذه الموجات كلها مصنوعة بعقول وأفكار من يكرهون هذا البلد، وإن حجم الطبيعى فيها لا يتجاوز حجم «البذرة» بالنسبة للشجرة الكبيرة.. حيث يتم التقاط حادث طبيعى وتضخيمه والتهويل منه وإعادة سرده وفق مصلحة من يرويه فى عملية تضليل مستمرة طوال الوقت للعب بعقول المصريين، والوصول بهم إلى نقطة انفجار سيخيب سعى من يسعون إليها بإذن الله.

من أمثلة محاولات التسخين الطبقى مثلًا التركيز على أسعار تذاكر حفل سياحى لمطرب هو الأعلى فى الوطن العربى، وإظهار حضور الحفل على أنه علامة من علامات التفاوت الطبقى الفادحة التى لا بد أن تعقبها ثورة فظيعة أو غضب هادر أو تدمير حارق! والحقيقة أننى شاهد على مصر منذ التسعينيات حتى الآن.. وأقول إن مظاهر التفاوت الطبقى الآن أقل من الماضى بكثير، وإن الأغنياء باتوا يمارسون فريضة المسئولية الاجتماعية «جبرًا أو طوعًا» أكثر مما كانوا يفعلون فى الماضى بكثير.. وأذكر أن نهاية التسعينيات مثلًا شهدت موجة من مبالغة الأثرياء فى تكاليف أفراح الأنجال والتفاخر بذلك ونشر التفاصيل فى الصحف الخاصة ما أثار غضب الرئيس الأسبق ودفعه لتحذير رجال الأعمال من عواقب ذلك.. ثم امتناع الصحف عن نشر تلك التفاصيل المستفزة.. وما أقصده أن التفاوت بين الأغنياء والفقراء موجود فى كل العصور وفى كل أنحاء العالم، وأن مصر بلد قوامه مائة وعشرة ملايين شخص، ولو افترضنا أن الميسورين فيه عشرة فى المائة فقط «هم أكثر من ذلك بحسابات الاقتصاد غير الرسمى» فمعنى هذا أن عددهم أحد عشر مليون شخص! وهذا كما نرى يفوق تعداد دول كاملة من الدول العربية الثرية والميسورة!

وكما فهمت من السياق فإن أحد أهداف الحفل كان الإعلان عن مدينة العلمين وبدء الحياة فيها، وهو أسلوب تسويق جيد ومعروف ولا غبار عليه.. والأمر كله يبدو منطقيًا أو أكثر من منطقى.. لكن هناك من شياطين السوشيال ميديا من أراد تحويل الحفل لكارثة كبيرة وطامة لا مثيل لها وعلامة على تفاوت طبقى مريع وفظيع.. وهذه كلها مبالغات ومحاولة لصناعة الفتنة وتفكيك المجتمع على أساس طبقى.. وأنا أقول إننا كمجتمع نريد من الأثرياء ثلاثة أمور «الإنتاج دون التورط فى الفساد، دفع الضرائب دون تهرب، ممارسة فريضة المسئولية الاجتماعية» فإذا فعلوا هذه الواجبات الثلاثة فهنيئًا لهم بناتج عملهم وبتخصيص جزء من أرباحهم للترفيه عن أنفسهم كما يفعل الجميع، حيث نقتطع جميعًا جزءًا من دخلنا للترفيه عن أنفسنا بمقدار هذا الدخل، فنذهب للسينما مثلًا أو نجلس على المقهى لأن دخلنا عدة مئات أو آلاف فنقتطع منه نسبة مئوية للترفيه.. الغنى «بغض النظر عن مصدر ثروته وأصلها وفصلها» يقتطع أيضًا نسبة من دخله الكبير للترفيه فتبدو لنا كبيرة.. وهكذا.. ما أريد أن أقوله إن ثمة موجات لصناعة الفتنة على أساس طبقى تظهر بين وقت وآخر.. وثمة موجات لاستغلال بعض حوادث متفرقة لعناصر ترتبط ببعض الأعمال الرسمية فى تشويه صورة عشرات الآلاف ممن يؤدون وظائفهم فى الدولة ومشاريعها بمنتهى التفانى والكفاءة.. والحقيقة أن ارتباط بعض العناصر الانتهازية بدولاب الدولة هو حقيقة واقعة منذ نشأة الدولة المصرية القديمة والحديثة وهو موجود فى كل الدول بنسب متفاوتة، وفى النهاية هى حوادث فردية تسمح الدولة بكشفها والتحقيق فيما قامت به ومقاضاتها أو تقديم طلبات الإحاطة حول قصص صعودها، وهذه كلها كما نرى أدوات رقابة ومحاسبة من داخل الدولة لا من خارجها، ومع ذلك فإنه تتم المبالغة فى التركيز على هذه القصص، وإعادة إنتاجها، والتفنن فى تكرارها وكأنها نهاية العالم، رغم أننا كنا نعيش فى عصر كان «الفساد فيه للركب»، على حد تعبير مسئول كبير فى الدولة وقتها، وكان الجميع يبدون سعداء ومتعايشين، ومنتعشين، ربما لأن الفساد وقتها كان متاحًا للجميع «مسئولين ومعارضين وحقوقيين» وفق قاعدة «إنت حلو وأنا حلو»!!

من ملامح صناعة الفتنة والفرقة أيضًا ذلك التلاحى البغيض بين من يسمون أنفسهم بالتنويريين وبين المؤسسات الدينية المختلفة أو بين بعض رجال الدين حول مسائل مثل «الحجاب» أو «حقوق المرأة» أو «الحريات الشخصية»، وأستطيع أن أقول دون ادعاء إننى وهبت حياتى المهنية لقضية التنوير.. ودفعت الثمن راضيًا، لكن هناك فرقًا بين «التنوير» وبين «الارتزاق بالتنوير» وأن هناك فرقًا بين النقاش مع رجال الدين وبين «التسافل» على رجال الدين، وبين التنوير المبنى على رؤية وطنية وذلك الذى يعمل خادمًا لمن يدفع هنا وهناك!! وبغض النظر عن نوايا من يصنعون هذه الموجات من الضجة ودوافعهم الحقيقية، فإننى أقول إننا نستغرق فى مناقشة الجزئيات ونترك الكليات، من هذه الجزئيات أن يستغرق الجميع فى مناقشة هل الحجاب فرض أم لا؟.. فى حين أن ما يجب أن نتفق عليه جميعًا هو قاعدة «حرية المصريين الشخصية»، كل امرأة حرة فى أن ترتدى ما تريد وفق «كود» المجتمع.. ربما يكون الحجاب فرضًا وهى تؤجل ارتداءه.. هى حرة تمامًا، أو ربما تكون مقتنعة بالرأى الذى يقول إنه ليس فرضًا.. هى أيضًا حرة تمامًا.. إذن ما ينبغى أن نتناقش حوله هو «الحرية الشخصية» وليس تفاصيل فقهية ودينية يختلف منطقنا فى تناولها والنظر إليها، وأظن أن المبالغة فيها هى نوع من أنواع صناعة الفرقة بين المصريين على أساس فكرى واجتماعى، بعد محاولة صناعتها على أساس طبقى.. من ملامح صناعة الفتنة أيضًا على «سوشيال ميديا» تلك المبالغة البغيضة فى اصطناع العداء بين الرجل والمرأة.. وتصويرها على أنها فى كل أوجهها علاقة ذبح وضرب وقمع.. رغم أن بين ظهرانينا قصص حب ومودة وتراحم رائعة بين رجال مصريين ونساء مصريات.. لكننا نخفى الطيب لحساب الخبيث، وندارى العادى لحساب الشاذ، ونجعل من الحادث الاستثنائى قاعدة، ونجعل من المجرم رمزًا للبطولة.. وهو أمر مصنوع لا شك فى هذا بأيدى صناع الفتنة والتطرف والكراهية فى مصر منذ العشرينيات وحتى الآن.. لقد كانت العلاقة بين الرجل والمرأة محلًا لتفكير الأدباء والسخرية اللطيفة والمحببة بين طرفين لا يستغنى أحدهما عن الآخر.. وقد بدأ هذه السخرية من المرأة الأديب البريطانى العظيم «برنارد شو» وتأثر به بعض مثقفينا فى العصر الليبرالى مثل «عباس العقاد» وتوفيق الحكيم، الذى سمى نفسه «عدو المرأة» على سبيل الدعابة، وقلد الكاتب أنيس منصور أستاذه العقاد بعد وفاته واستمر فى بعض الكتابات الساخرة والمحبة للمرأة.. ضمن منظومة أفكار «رجعية» كان يؤمن بها.. لكن هذه السخرية اللطيفة انقلبت إلى عنف، وضرب، ومبالغات، وقصص قمع، واستغل بعض الانتهازيين ميل الدولة لإنصاف المرأة، لركوب الموجة، والمبالغة فى إشعال العداء بين الرجل والمرأة، وشيطنة بعض الرجال، والحقيقة أنه يوجد رجال طيبون ورجال أشرار، كما توجد نساء طيبات ونساء شريرات، ويوجد رجال لا يدفعون النفقة لأنهم بخلاء ويوجد أيضًا من لا يدفعون لأنهم مفلسون أو لا يسمح دخلهم بالإنفاق على بيتين بعد الطلاق، وبالتالى فليس من المصلحة إذكاء نيران العداء بين الرجل والمرأة عبر الفيسبوك وعبر الدراما، ولا شيطنة الرجال ولا النساء، بقدر ما أنه من المفيد التركيز على قصص الحب والتراحم والتكافل داخل الأسر المصرية وهى بالملايين، ولولاها ما استمرت الحياة فى مصر يومًا واحدًا.

إننى أقول إن من يسعون لصنع الفتنة بين المصريين «أغنياء- فقراء» و«رجل- امرأة» و«تنويرى- متطرف» كلهم أعضاء فى جماعة مصالح واحدة، تحركهم وتمولهم أيدٍ لا تريد الخير لهذا البلد، يرتدون أقنعة مختلفة ولكنهم يأكلون من طبق واحد.. يمدهم بالمال الحرام جميعًا.. فاحذروا أيها المصريون.