رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكيان الصهيونى النازى ومرضه العضال! «1»

كثيرًا ما يدور فى الذهن السؤال حول دواعى هذا «الغِل» الصهيونى الذى نلمسه، ونتأذى من نتائجه، على كل المستويات، فى كل يوم وكل ساعة، بل فى كل لحظة، مُمَثلًا فى جميع مظاهر السلوك العدوانى للكيان الإسرائيلى تجاهنا، الذى ما انفك يعبِّر عنه فى جميع ممارساته الكارهة، حتى للشعوب العربية التى يدَّعى صداقتها وتوقيع صكوك «السلام» معها، ناهيك عن الشعب الفلسطينى، الضحية الأولى التى نالها وسينالها، حتى ينتهى أمر هذا «الضيف» البارد الثقيل بالرحيل إلى حيث ألقت، النصيب الأكبر من العدوانية والتوحُّش الإسرائيلى، لأدنى سبب وأوهى مُبرر، وحتى بدون سبب منطقى فى أغلب الأحيان. 

ما تفسير هذا الأمر؟! وما دوافعه؟ ومظاهره؟ وآليات مقاومته؟!.. هذه الأسئلة، وغيرها من الأفكار التى تُحلّق فى مُحيطها، كانت محل دراسة وتحليل واحد من أساطين العلوم السياسية «السلوكية» فى الكيان الصهيونى، البروفيسور «أولك نيتسر»، فى كتابه المهم للغاية «فيروس التَعَصُّب حل الشفرة السياسية الإسرائيلية»، (ترجمه عن العبرية وعلّق عليه «د. عبدالوهاب محمود وهب الله»، كلية الآداب جامعة القاهرة، ٢٠٠٣). 

وقد لفت أنظار هذا الباحث الإسرائيلى المتخصص، وهاله، استفحال النزوع الإرهابى فى عقيدة وسلوك الكيان وسُكَّانه، الأمر الذى أزعجه أيما إزعاج، فـ«لست أرى خطرًا أكبر على مستقبل (دولة) إسرائيل من حقيقة أن الكارثة قد غُرست بمنهجية وبقوة فى وعى كل الجمهور الإسرائيلى، حتى فى القسم الكبير الذى لم يمر بالكارثة النازية.. إنها دعوة للكراهية المستمرة والعمياء.. وهى عقدة نفسية يتم توريثها للأطفال.. فالشخصية (القومية) الجماعية تُنمِّى عقدة النازية بدلًا من العمل على التغلُّب عليها، وفى هذا كل الخطر على مستقبل إسرائيل»!

وقدّم «د. نيتسر»، فى كتابه، تحليلًا أكاديميًا متعمقًا للسلوك اللا إنسانى الصهيونى، سنتناوله فيما بعد، الذى أصبح مسيطرًا على السياسة والممارسات العسكرية الإسرائيلية، لأول مرة على هذا العمق واتساع المدى، منذ برزت الفكرة الصهيونية للوجود حتى تحققت، ويعتبرها «ظاهرة نفسية» تشير إلى مرض خطير عمَّ وانتشر أصاب السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، سَبَبَه ما وصفه بـ«فيروس» فتّاك أصابهم جميعًا، واستخدم العالِم الإسرائيلى هذا الوصف الشائع لكى يدلل على انتشار وباء اجتماعى خطير، متأثرًا فى ذلك بالمتخصصين فى بحوث الفيروسات، التى يعكفون على دراساتها بهدف التوصل إلى وسائل علاجية وقائية ناجعة، تقى من شرورها، وتُحد من انتشار آثارها الضارة على البلد والمجتمع.

فالقضية بالنسبة للبروفيسور «نيتسر» تنطلق، أولًا وأخيرًا، من البحث عن مصلحة المجتمع الإسرائيلى بعدما تنامت فيه، بتواتر مسبب للقلق البالغ، دواعى العنصرية والنازية، التى عانى اليهود من ويلاتها، وبدلًا من انتباه «إسرائيل» لهذا الخطر الداهم والعمل على البُرء من عدواه وتجنب كوارثه، كما كان يتوقع الدكتور «نيتسر»، إذ بسُكَّانها يُقلدون معذبيهم السابقين، بل يتفوقون عليهم فى بث مشاعر الكراهية والعدوانية وروح الانتقام، ممن لم يكن لهم أدنى دخل فى هذا الأمر، بل ممن فتحوا صدورهم وأبوابهم كملاذ آمن لهم؛ من لفح الكراهية النازية، حين عزَّ الملاذ!

وكما لو كان يقرأ فى صفحات كتاب مفتوح، ليحكى ما سيحدث خلال، وبعد نحو ٢٠ عامًا من تسطيره لمضامين هذا الكتاب، حيث ساد «التَعَصُّب، والعنصرية، والحماقات والجهالة، والشلل الفكرى»... إلخ، وهى كلها أمور تشكّلت فى أنماط سائدة فى الكيان، سياسية وأيديولوجية، دينية وغير دينية.. الأمر الذى يوجب «التصدّى لها كما يجرى التصدّى لمرض الإيدز أو السرطان»، قبل أن يستفحل أمرها، وتقضى على حامل هذا الفيروس!

فالطريق الذى يقود إليه انتشار «فيروس التعصُّب واللا إنسانية»، هو طريق «جهنم سياسى»، وهو مسار «ديكتاتورى استبدادى»، يودى بالمجتمع، حتمًا، إلى التهلُكة، ولذا فمن خلال العلم والمعرفة والخبرة يسعى المؤلف جاهدًا إلى استيضاح أعراض «مرض التعصُّب»، وتحديد الأعضاء والوظائف الإدراكية والفكرية التى يصيبها هذا الفيروس الفتّاك، وبحث الوسائل التى يمكن اللجوء إليها لوقف زحف هذا الوباء. 

ويُرجع الكاتب، وهذا ما لا نوافقه على افتراضه، انتشار هذه الظاهرة المقيتة، ظاهرة التعصب الأعمى، والحماقة، وغياب الحس الإنسانى، وإباحة، بل التلذُّذ بسفك دماء «الأغيار»، فى السلوك السياسى والعسكرى الإسرائيلى، إلى نتائج حرب يونيو ١٩٦٧، مُدّعيًا أن «إسرائيل» حافظت قبل حرب ١٩٦٧ على صيغة سياسية ديمقراطية إنسانية، غلب عليها طابع أخلاقى فى ظل حكم ما يسميه «اليسار الإسرائيلى»، حيث لم تكن لإسرائيل أطماع توسعية، تحركها الرغبة فى السلام داخل «حدودها»!، إلى أن خرجت من الحرب وهى تسيطر على خمسة أضعاف مساحتها «الأصلية»، وعلى ملايين من البشر «الفلسطينيين والعرب»، ما أدى إلى انتشار مرض «اللا إنسانية» و«التعصب»، حتى سيطر سيطرة تامة على «إسرائيل» وسياستها كما يبدو جليًا الآن!

فالحق أن هذا المرض العضال ليس وليد نتائج حرب الخامس من يونيو ١٩٦٧، وما تمخضت الحرب عنه من مواضعات، كما يزعم الباحث، بل هو مرض عضوى هيكلى لصيق بالعقيدة الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية ذاتها، فمنذ وُلدت هذه الفكرة العنصرية المقيتة، وُلد معها توأمها «السيامى» اللصيق: فيروس العنف والدمار والإرهاب والخراب، ويكفى أن نستل من كتاب نبى الصهيونية الأعظم، «تيودور هرتزل»، المُسمى «الدولة اليهودية»، مقطعًا صغيرًا، لنتأكد من عمق الأواصر بين «الصهيونية» وأيديولوجية وممارسات سياسات العنصرية والتمييز والقتل المنهجى، و«التوحش»... إلخ. 

يقول «هرتزل» ناصحًا أتباعه، ومُرسيًا أول ركائز المجتمع اللا إنسانى الصهيونى القائم: «إنه إذا أردنا أن نُقيم اليوم دولة، (نهاية القرن التاسع عشر)، فلن نقيمها بنفس الطريقة التى كانت هى الإمكانية الوحيدة منذ ألف سنة. إنه من الغباء الرجوع إلى المراحل الحضارية السابقة كما يريد كثير من الصهاينة أن يفعلوا. لنفرض، كمثال على ذلك، أنه كان علينا أن نُخلى أرضًا من الحيوانات المفترسة، فلن نقوم بالمهمة بنفس الطريقة التى اتبعها الأوروبيون فى القرن الخامس. فلا يصح أن نأخذ رمحًا وحربة ونخرج أفرادًا وراء الدببة، بل ينبغى أن ننظم مجموعة قريبة من الصيادين، فنسوق الحيوانات لنجمعهم معًا فى مكان واحد ثم نقذف بينهم فى وسطهم بقنبلة مدمرة»!

ياللهول... «فنسوق الحيوانات لنجمعهم معًا فى مكان واحد؛ ثم نقذف بينهم فى وسطهم بقنبلة مدمرة»!. 

منذ أكثر من قرن وربع القرن هددنا «هرتزل» تهديدًا قاطعًا، بما يحدث أمام أعيننا اليوم، بهذا الوضوح المفضوح، لكننا لا نقرأ، بل يهرول بعضنا مهللين وهم يُساقون إلى المذبحة، فرحين بالـ«تطبيع»، ومنتشين بأوهام الاستسلام، أقصد «السلام»! (يتبع).