رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مهمـة سريـة

بهاء الدين حسن
بهاء الدين حسن

كانت اللافتـة المعلقـة على بـاب المدرســة واضحـة تمامًـا لأفـراد الأسرة «مدرسة الهلال الأحمر القبطية للبنات»، مما جعل الوصول إليها سهلًا فى المدينة التى يحتاج زائرها إلى دليل، يقيه عناء البحث والسؤال!

فى مكتب وكيلـة المدرسـة جلسوا يسألونها عن أحوالهـا ويطمـئنون على صحتها، وهى تبادلهم السؤال عن أحوال الأهل، وباقى أفراد الأسرة فى قرية أبوعزيز، تطوقها سعادة غامرة بزيارتهم لها فى المدرسة، بعد أن تركت القرية ومحافظة المنيا وجاءت إلى القاهرة!

لم يجد أفراد الأسرة صعوبـة فى إبلاغها بالخبـر، فثقافتهـا وعلمها سهلا عليهم المهمة، وجعلاهم لا يترددون فى إبلاغها بوفاة خالتها، وأن الأصول تحتـم عليهـا أن تسـافر معهم لتقـوم بتأديـة واجب العـزاء، وزيارة قبرها لقراءة الفاتحة والترحم عليها!

 

عندما توقف القطار فى محطة المنيا، لم يتجهوا إلى منزل الأسرة بالقرية وفضّلوا الذهاب إلى المقابر مباشرة، وقف الجميع أمام المقبـرة، وكانت دولت فهمى تقف فى المقدمـة، تستعد لقــراءة الفاتحـة على روح خالتها، التى لــم تشــأ لهــا الظــروف أن تـودعهـا وتحضـر جنازتها، بينما أفـراد الأسرة يصطفون خلفها ويطوقونها!

 

عندمـا صدرت التعليمـات من التنظيـم السـرى بتكليف الشــاب عبدالقـادر شحاتة باغتيال محمد شفيق باشا، لم يتردد عبدالقادر فى القيام بالمهمة.

كان التنظيـم يعلـم بالدور الذى كان يقـوم بـه عبدالقـادر فى طبـع وتوزيـع المنشورات المناصرة للثورة، التى أشعل فتيلها سعد زغلـول عام ١٩١٩، عقب اعتقاله من قِبل السلطات البريطانية، بعد مطالبته بالسفـر إلى مؤتمر باريس للســلام، لمنـاقشـة القضيـة المصريـــة، والمطالبـــة بالاستقــلال استجابة لتذمّــر الشعب المصــرى من الاحتــلال الإنجليـزى، وتغلغله فى شئون الدولـة، وطغيان المصالح الأجنبية على المصالح المصرية، فقد اعتقلت بريطانيا سعد زغلول وثلاثة من زملائـه لتشكيلهم الوفد، ونفتهم إلى جزيــرة مالطـــا، الأمــر الذى أدى إلى بدايــة الاحتجاجات فى مارس ١٩١٩!

كان التنظيم يعلم مدى وطنية عبدالقـادر، لذا لم يتردد فى إسنـاد المهمة إليه.

تنكر عبدالقـادر فى ملابس عامـل، وبعـد أن استلم القنبلـة من زميــل لـه تحيّن فرصـة مـرور موكب محمـد شفيق باشـا وألقى عليـه القنبلـة، لكن الحظ لم يحالفه ولم تنجح المهمـة، فقـد نجـا الوزيـر ولم يقـدر له الموت، حاول عبدالقادر أن يهرب، لكن القوات تمكنت من القبض عليـه!

كان التنظيـم السـرى الذى يديـره عبدالرحمن فهمى وأحمد ماهـر، يحمـل على عاتقه مهمة ترويع الإنجليز من المحتلين وتخويف المتعاونين معهم من المصريين، الأمــر الذى جعــل التنظيـم لم يتـردد فى اغتيــال جنــــود الاحتلال، وكان التنظيم يحرّم قبول أى مصرى لأى حقيبة وزارية فى ظل الحمايـة البريطانيـة، حيث إنه كان يعتبر ذلك خيانة للوطن، وعندما قبل محمد شفيق باشا تولى ثلاث وزارات، الأشغال والحربية والزراعة، قرر التنظيم، الذى فوجئ بذلك، أن يتخلص منه!

 

عندما سأل المحقق عبدالقادر شحاتة أثناء محاكمته:

ـ لماذا حاولت اغتيال محمد شفيق باشا؟

لم يتردد عبدالقادر فى الإجابة، وقال بصراحة ووضوح:

ـ لأنه قبِل الوزارة، وقبِل التعاون مع المحتلين!

فعاد المحقق وسأله:

ـ أين كنت تبيت قبل محاولة الاغتيال؟

لـم يكن عبـدالقــادر قــد انتهى من قـــراءة الرســالــة التى وصلتــه أثنـاء التحقيـق من التنظيم السـرى، والتى يطالبـه فيها التنظيم بأن يقول نفس الكلام الذى ستقولـه السيـدة التى ستحضر التحقيق، حتى فوجئ بدولت فهمى تقف فى القاعة، وتقول وسط دهشة الحضور، ودهشـة عبدالقادر نفسه للمحقق: 

ـ كان يبيت عندى!

ثم اتجهت نحـو عبدالقادر شحاتـة وقبّلتـه، وهى تشــد على يـده بحـرارة وتطمئنه!

لم يتردد كاتب النيابـة، الذى فغر فـاه من المفاجـأة، وراح يدعك فى أذنيـه ليرهف السمـع غيـر مصدق ما سمعـه، فى أن ينقــل الخبـر لأســرة دولت فهمى، لــم يكن كاتب النيابــة يطمـع فى الحصــول على مكافأة من أسرة دولت فهمى، ابنة الأكابر، ذات الأصـول العريقـة والحسب والنسب، التى ينتمى نسبها إلى الأشـراف، لكنه نقـل الخبر بدافع الطبع والدم الصعيدى الحار، الـذى يسـرى فى عروقــه، حيث إنـــه ينتمى لنفـس قريــة دولت فهمى!

نـزل الخبـر على أسـرة دولت فهمى كالصاعقة، ولم يصدق إخــوة دولت كـلام كاتب النيابــة، إذ إنهـم كيف يصدقــون أن ابنتهم المتعلمـة المثقفـة التى دفعتها وطنيتها لانشغالهـا بالمنــاداة بالتعليــم والقضــاء على الجهل لمواجهة الاحتـلال بالعلم، وأنهــا لم تتهـاون فى دعم ثـــورة ١٩١٩ من خلال موقعها الوظيفى بحشد بنى جلدتها من النساء والفتيات، ومطالبتهن بالخروج للوقـوف ضد الاحتلال، أن تســـول لها نفسها ارتكاب هذا الفعل الآثـم، وكيف بهـا تجـر العـــار وتنجــرف إلى الرذيلــة، فخدمــة الوطـن لا تستقيـم مع خدمـة رغبـات الجسـد والأهـواء؟

فكانت نظرتهم لكاتب النيابة نظرة سائل يطلب الدليل، فما كان منه إلا أن أخذهم إلى المحكمـة وأطلعهـم على المحضـر الذى وقّعت عليــه بصحــة أقوالها، فصاح أحد إخوتها:

ـ إنه توقيعها!

وحتى يشفى كاتب النيابــة من الهـم الجاثـم على صـدره، قـام بإلقاء آخر ما تبقى من حمل ينوء به كتفـه، على كتف إخوة دولت، لم يجد غضاضـة فى أن يلقى على مسامع الأسرة، التى بدأت نار العار تشتعـل فيهـا، أنها كانت عشيقة للطالب عبدالقادر شحاتة، وأنه كان يبيت عندها كل ليلة!

فانتابت أحد إخوتها حالة من الهيستيرية، وراح يصرخ بحرقة: 

ـ كيف أقدمت دولت على هذا الفعل المشين، وكنا نعتبرها قديسة؟!

وعقّب آخــر:

ـ ما كان يجب علينا أن نتركها تغادر قرية أبوعزيز، لتفعل ما يحلو لها فى زحمة المدينة، بعيدًا عن أعيننا، فالمرأة فى حاجة لمن يرصد تحركاتهـا ويضعها تحت المراقبة!

ـ تركناها فى حماية العلم وعصمته!

بعد أربع سنوات من السجن خـرج عبدالقادر من سجـن طــرة فى ١٩٢٤، كان أول شىء فكر فيـه، أن يزور المرأة التى وضعت سمعتها فى التراب ودنست شرفها بشهادة تضر بها أكثر مما تفيده!

لم يكن عبدالقادر شحاتة يعرف دولت فهمى، ولا التقى بها من قبل، فقد كان انخراطهـا فى التنظيــم السـرى للثـورة يجعـل من الصعوبــة معرفتها والكشف عن دورهـا، وما يسرى عليها يسرى على باقى أفراد التنظيم! حيث إن العمل فى التنظيم يحتم السرية التامة، وكان التنظيم هو ما ابتدع حكايــة أن دولت فهمى كانت تبيت مع عبدالقــادر، قبـل محاولتـه اغتيال محمد شفيق باشـا، حفاظًا على كيـان التنظيـم من الانهيــار، وكنوع من التحايل ليبرئ التنظيم واحدًا من رجاله!

 

بحث عبدالقادر عن دولت فهمى، وسأل عنها زعماء التنظيم السرى، كان عبدالقـادر يشعـر بحب نحــو المـرأة التى وقفت معـــه دون أن يعرفهـا أو تعرفـه، الأمر الذى دفعه لاتخـاذ قرار الزواج منها، فكثيـرات هن النساء لكن قليلات هن المضحيات!

اصطحبت أسـرة دولت فهمى عبدالقادر شحاتــة إلى مقابر الأسـرة، وفى مشهد أعاد نفسه، وكان قد حدث منذ سنوات ليست بعيدة، عندما وقفت دولت فهمى فى المقدمة وأفراد الأسرة يصطفون خلفها ويطوقونها، وقف عبدالقادر فى المقدمة، وأفراد الأسرة خلفه، لكن لم ينقض هذه المرة أفراد الأسرة على عبدالقادر بالخناجـر والسكاكين ليـردوه قتيلًا، كما حـدث من قبـل مع دولت فهمى، التى استدرجوها وقتهـا إلى المقـابـر بحجـة قـراءة الفاتحـة على روح خالتهــا ليغسلوا عارهــم، لكن الجميع هذه المرة رفع يده إلى السماء، وهم يقفون مهابة أمام قبر دولت فهمى، وراحـوا يقرأون الفاتحة على روحها الطاهرة.

(تمت)