رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حجاج الباى وعطر الأحباب

«قول يا مغنواتى قول.. وتَّر وسمعنا لما الربابة تئن.. ممكن قلوبنا تحن.. والشوق يجمعنا قول يا مغنواتى قول.. والله ما ضيعنا.. إلا سكات الطير عن المغنى الليل مالوش معنى.. إلا الرباب إن قال.. واتسحب الموّال.. على جرح يوجعنا».. 

ونقول على قول شاعرنا الكبير الراحل حجاج الباى، إن ما يوجعنا الآن حقًا هو ظاهرة اختلال القيم التى تضرب فى المجتمع، وتتواصل جهود المخلصين لصيانة الإنسان من مخاطرها، وإذ نعظم دورهم نستحضر فى ذلك السياق «حَمَلة مشاعل الوعى» من الراحلين الذين كانت لهم بصمة وأثر فى مجتمعاتهم، ومنهم أدباء بذلوا حياتهم فى سبيل ترسيخ القيم الإنسانية والدفاع عنها، فحينما نتذكرهم إنما نستحضر القيم التى يمثلونها ونحث على تفعيلها..

وهو ما قصد إليه برنامج «عطر الأحباب» الذى نفذته الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن لياليها الرمضانية بالحديقة الثقافية بالسيدة زينب؛ حيث استحضار شخصيات أدباء ومبدعين أثروا الحياة الثقافية بما قدموه للحراك الأدبى فى أقاليم مصر المختلفة سواء بإنتاجهم الإبداعى أو بتجسيدهم قيمًا يتم تسليع الكثير منها فى ظل الأنانية والفردية وحالة الاتجار بكل شىء، وليس أقلها «اكتشاف المواهب ورعايتهم فكريًا وفنيًا»، وهو دور مهم شُغل به أدباء ومبدعون لدرجة أن ذلك ربما جاء على حساب مشروعاتهم الشخصية بشكل أو بآخر.. وكان الشاعر الكبير حجاج الباى «1935- 1991» واحدًا ممن لهم دور مهم ومؤثر فى الواقع الأدبى والثقافى، خصوصًا فى محافظة أسوان.. 

و«الباى» صاحب مسيرة طويلة متعددة المسارات، وقد سعدت بالدعوة للمشاركة فى استحضار بعض من سيرته ومسار عطره فى ذكرى مرور 31 سنة على رحيله، من خلال برنامج «عطر الأحباب»، لكن ما صدمنى حقًا هو عدم توثيق مدونته الإبداعية الحافلة بالإبداع الشعرى والمسرحى، ومنها ديوان «الليل والنخل والغراب» الذى صدر فى طبعة محدودة عام 1965م، وكان مقدرًا له أن يعاد فى طبعة منقحة ومزيدة بقصائد كتبها الشاعر فى عقد الستينيات، ونفس الأمر مع ديوان «الحلم فى الممنوع»، فضلًا عن ديوان بعنوان «المخاض».. 

كان من المفترض أن يتم إنجاز ذلك فى حياة الشاعر، وهو ما لم يحدث؛ حتى ديوانه الوحيد الحاضر توثيقًا «حكاية عروسة البحر»، الذى صدر عن سلسلة إشراقات أدبية بهيئة الكتاب فى منتصف الثمانينيات ما عاد متوفرًا الآن ولو بصيغة PDF، وفى هذا السياق تغيب أيضًا أعماله المسرحية للكبار والصغار، ومنها «المتمردون، وفى حب مصر، ووزير بياع الجرجير»، وغيرها مما قدمتها الفرق المسرحية، ومنها «فرقة أسوان القومية، وفرق المسرح المدرسى، وفرقة أنصار التمثيل بأسوان» فى عقدى الستينيات والسبعينيات.. 

ولا شك أن شخصية حجاج الباى الموسومة برعاية الآخرين ومحبتهم والإخلاص للعمل الثقافى العام وإنكار الذات، فضلًا عن عزة نفسه، كانت من الأسباب التى شغلته عن فعل ذلك لنفسه فى حينه، وقد جاءت وفاته المفاجئة لتكتمل الصورة؛ فبعد رحيله لم تجد مدونته من يرعاها، لكن رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على رحيله لم يخفت تأثيره فى قلوب من عاصروه أو شهدوا دوره فى حياته، وكذلك من يعتبرونه أستاذًا لهم، فضلًا عن الذين قرأوا له؛ فهو واحد من نخبة المتميزين فى الشعر العامى فى مصر.. 

ولا أخفيكم سرًا حينما أقول إننى فى ظل غياب مدونته لجأت إلى ما تختزنه ذاكرتى البعيدة للحديث عنه، كما تحدثت مع بعض أصدقائى من المبدعين فوجدته حاضرًا فى نفوسهم؛ يتذكرون له شخصيته الداعمة للمواهب ودوره فى الحركة الأدبية فى محافظة أسوان، فضلًا عن دوره فى دعمهم على المستوى الشخصى، وبما دفعهم لبناء ذواتهم الإبداعية، ومن هؤلاء الشاعر أسامة البنا الذى اقترب من الشاعر الكبير، وتختزن ذاكرته كثيرًا من التفاصيل عنه، وكذلك القاص والروائى أحمد أبوخنيجر الذى يحاول منذ سنوات جمع إنتاج «الباى» وأثره لتقديمه سلسلة الأعمال الكاملة التى تصدرها الهيئة المصرية للكتاب.. ولا لوم عليه؛ إذ تواصل مع ورثة الشاعر الراحل، لتحقيق ذلك، لكن الأمر ما زال معلقًا لدى الأسرة؛ قيد الإتاحة.. وربما يكون ذلك المقال حافزًا لما يمكن تفعيله فى سياق جمع ما كتبه «الباى» وما كُتب عنه لنشره؛ ففى ذلك الخير الكثير للإبداع والمجتمع، ويكتمل عطر الأحباب باستجابة أسرة «الباى».. فضلًا عن شهادات نتمنى أن يسطرها كل من عرف «الباى» ودوره، لاستمرار القيم التى عاش يعمل على إرسائها ودافع عنها طوال عمره.. 

والآن يتناهى صوته إلى سمعى؛ يقول: «طخوا القمر بالنار/ صابه العيار.. ما حط منطوقه/ جُم كفَنوه بالصبر/ حطوا عليه جرنان.. دمه نشع فوقه/ لموا القمر فى حكاية كدّابه/ قالوا عليه انتحر.. وجابوا له ندّابه/ كانت مدينتنا بسبع تبواب/ واحد عشان القمر.. والسته لجلم يدخلوا الخطاب/ أبدًا ما حوّم فوق بلدنا غراب/ ولا حط فوق الشط صيادين/ وأنا كان لى جوادى المدينة قصر.. القصر كان بدورين/ أبدًا ما شفت الليل على قصرى».. 

ويليق فى استحضاره أيضًا أن ننشد ما كتبه فى رثاء رفيق مسيرته وصديقه الشاعر عبدالرحيم منصور: «أصلك يا صاحبى كنت شىء نادر وشىء طاهر/ لا كنت بتاجر ولا كنت يوم فاجر/ ولا كنت تتظاهر بإنك بطل/ ولا كنت بتنافق ولا توافق/ ولا كنت يا صاحبى خيال ف الضل/ وكنت فوق الكل سيد الكل/ أبيض بياض الفل طاهر عفيف وشريف/ ما نطقتش التحريف ولا التخريف/ ولا كنت يا صاحبى النبيل بتغش/ وكنت ضد الزيف/ لا كنت كاذب/ ولا كنت بمليون وش».