رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرئيس بايدن فى قلعة السلاح الأمريكى

للمرة الأولى منذ تولى «جو بايدن» منصبه؛ وربما حتى فى فترة توليه منصب نائب الرئيس مع الرئيس الأسبق باراك أوباما، زار الرئيس الأمريكى هذا الأسبوع أحد أهم قلاع التصنيع العسكرى الأمريكى فى ولاية ألاباما، وهو مركز التصنيع الرئيسى لشركة «لوكهيد مارتن» التى تنتج بعض الأسلحة التى تزود بها واشنطن أوكرانيا فى حربها ضد روسيا. الزيارة جرت الثلاثاء ووصفت بـ«غير المسبوقة» وهى هكذا بالفعل، خاصة وهى تحمل فى طياتها تقديرًا خاصًا للمؤسسة العسكرية الأمريكية التى تمكنت حتى الآن على الأقل، من إصابة الخطة العسكرية الروسية فى أوكرانيا بـ«التعثر» حسب التقديرات الأمريكية.

موقع هذا التقدير بالنسبة لـ«لوكهيد مارتن» الذى جعلها تحظى بتلك الزيارة الرئاسية، أنها القائمة على مشروع إنتاج الصاروخ «جافلين» Javelin أحد نجوم الحرب الروسية الأوكرانية، فهو الصاروخ المحمول على الكتف زنة ١٥.٩ كجم الذى تمكن من إصابة آلة الحرب الروسية المدرعة من دبابات حديثة وغيرها بصداع كبير. 

فهذه المنظومة التى كانت كييف تمتلك البعض القليل منها قبل اندلاع المواجهات العسكرية، فرضت تطورات القتال على محاور عدة ازدياد الطلب عليها، وعلى مقذوفاتها على نحو واسع، بعد أن تمكنت الوحدات الأوكرانية من استخدامها بكفاءة أوقعت بواسطتها خسائر كبيرة فى أرتال الدبابات التى بدأت شرارة اقتحام الأراضى والمدن الأوكرانية. لعل أشهر نماذج هذا الاستخدام الفعال؛ ما جرى مع «الرتل» الروسى الكبير من المدرعات الذى تقدم فى الأسابيع الأولى للحرب تجاه العاصمة «كييف»، وبقى هناك متقدمًا من المحور الشمالى والشمالى الغربى بامتداد لمسافة قدرت بنحو ٣٥ كم، ووصل لتخوم أقل من ١٠ كم بمحيط ضواحى العاصمة الأوكرانية. وإذا به بعد أسابيع من هذا التموضع الذى نقلته وسائل الإعلام الروسية والبيانات الرسمية باعتباره حصارًا للعاصمة بغرض دخولها أو إسقاط النظام السياسى الأوكرانى الذى يدير المعركة من داخلها، يعلن عن سحب هذه الأرتال وتوجيهها لإعادة انتشار مغايرة لما بدأت خطتها به. حينئذ خرجت بعض التقارير المبتسرة لم تكشف حقيقة ما جرى على وجه التحديد، لكنها أرجعت أسباب التراجع وإعادة الانتشار إلى تكبد القوات الروسية خسائر فادحة بالخصوص فى أعداد «الدبابات»، ومنذ هذا التاريخ من عمر الحرب بدأت تتكشف أهمية صواريخ «جافلين» وتنامى الحديث عنها بصورة واسعة.

الرئيس الأمريكى خلال زيارته مركز التصنيع العسكرى، حث فى كلمته الكونجرس للإسراع بالموافقة على تمويل إضافى يتيح لـ«لوكهيد مارتن»، التوسع فى إنتاج إضافى لصواريخ «جافلين» وذخائرها يمكنه تلبية احتياجات الجانب الأوكرانى، الذى وفق التقارير الميدانية الأمريكية يستهلك منها حوالى «٥٠٠ قذيفة» يوميًا، ولا يتصور وفق ما تم تقديمه من دعم أمريكى سخى لأوكرانيا خلال شهرين من عمر الحرب «٣.٤ مليار» دولار، أن يواجه الرئيس عقبات داخل أروقة الكونجرس المتحمس بحزبيه الديمقراطى والجمهورى؛ لخوض هذا النزال ضد النظام الروسى، وفى حالة توافق مؤكدة تبدو حتى الآن مراوحة ما بين التشدد والأكثر تشددًا. 

ويبقى المشروع الذى تتشارك فيه «لوكهيد مارتن» مع شركة أخرى «رايثيون» Raytheon، هو الأكثر بريقًا فى الوقت الراهن وبمثابة الملبى لتطورات الحروب غير المتماثلة، فالجيش الأمريكى مجهز بإحدى النسخ القديمة نسبيًا Javelin JV منذ عام ١٩٩٦، التى اقتصرت على مواجهة فعالة للدروع وبدقة تصويب متميزة. 

اليوم مع الحرب الأوكرانية تعتزم المؤسسة العسكرية الأمريكية ضخ مزيد من الاستثمارات، فى أبحاث التطوير حيث تمكنت مؤخرًا من إنتاج نسخة متقدمة لمنظومة جديدة تحمل اسم «Javelin ـ FGM ـ ١٤٨ ـ F model»، أثبتت كفاءة لافتة على مسرح العمليات الأوكرانى، فهى تعد تطورًا كبيرًا باعتبار الرأس الحربى متعدد الأغراض ما زال محافظًا على قدرة الفتك ذاتها ضد الدبابات والعربات المدرعة، إضافة إلى ذلك تم تعزيزه بقدرة الفتك المضادة للأفراد وللعربات وناقلات الجنود.

أبحاث التطوير داخل الشركتين انصبت بالطبع على إنتاج اشتقاق جديد، يحظى بخفض للتكلفة ووزن أقل تعطى له ميزات نسبية فى الاستخدام، فضلًا عن التحسين المطرد لمعدلات ودقة الإصابة، هذا ما أثبتته الاستخدامات الواسعة للجافلين فى أوكرانيا داخل بيئات قتال متنوعة غالبيتها آهلة بالسكان، وهى تمثل معضلة حقيقية لحروب المدن والضواحى، على الأرجح شكلت التحدى الأكبر أمام التقدم والحسم الروسى المفقود. لذلك تمحور الحديث الروسى منذ الأسابيع الأولى حول ما سمى بـ«الممرات الإنسانية الآمنة»، من أجل الإصرار على إخلاء المدن والمناطق التى يدور فيها هذا النوع من القتال المراوغ، واحتل مساحة كبيرة من جولات التفاوض مع كييف التى لم تبد نفس الحماسة من أجل تنفيذها وتشغيلها على الأرض. تبادلت الاتهامات من الجانبين حول استخدام السكان والمدنيين دروعًا بشرية تعيق «الحسم» العسكرى، فيما بدا خلالها أن تلك الأسلحة الجديدة مثل «جافلين» وغيرها، تحقق فاعلية على محاور القتال تجعل مستخدميها من المقاتلين الأوكرانيين أحرص على القيام بمناورات تكبد الخصم خسائر مؤثرة. على جانب مقابل يرد الجانب الروسى بحجم نيران أكثر كثافة وقوة تدمير واسعة، من أجل أن يضع الوحدات العسكرية الأوكرانية المستخدمة لهذا النمط القتالى أمام فاتورة خسائر باهظة، يدفعها لإعادة حسابات التمترس بداخل المدن خاصة مع ما يسببه أيضًا من ضرب هائل لمعنوياتها، بالنظر إلى تقييم قدرة وفاعلية الاستمرار فى القتال على هذا النحو.

لم يقف الرد الروسى على هذا الأمر عند حد تكبيد الخسائر المباشرة للقوات الأوكرانية التى تواجهها فى محاور عدة، بل أصر مرات عدة على التأكيد أن قوافل إمداد السلاح الغربى عامة إلى أوكرانيا، أهداف مشروعة للجيش الروسى بمختلف وحداته. الثابت أن الاستخبارات العسكرية الروسية تخوض صراعًا شرسًا مع نظرائها، من أجل الحصول على معلومات تتعلق بخطوط الإمداد التى تأتى من خارج الحدود الأوكرانية، ربما لم تتمكن طوال الفترة الماضية من تحقيق انتصار يتمثل فى قطع كامل لهذه الشرايين المتدفقة، لكنها نجحت فى عديد المرات فى توجيه ضربات مؤثرة وعطلت فى بعض المناطق وتيرة الوصول وقدرات الإدخال الغربى. أشهر تلك الضربات الناجحة كانت بالقصف الصاروخى الروسى بعيد المدى الذى وقع ١٣ مارس الماضى، لقاعدة «يافوروفسكى» العسكرية الواقعة على بعد ٣٠ كم من أقصى الغرب الأوكرانى بالقرب من الحدود البولندية.

لكن الأحدث والأخطر هو ما جرى هذا الأسبوع، وربما يمثل ملاحقة روسية متطورة لخطوط إمداد السلاح عبر الجو، ففى خبر غير اعتيادى، صرحت غرفة عمليات «ناتو» بأن الحلف اضطر لإرسال طائرات مقاتلة على نحو عاجل لملاحقة طائرات تابعة لسلاح الجو الروسى، تقوم بالتحليق وتنفيذ طلعات غامضة فى مناطق تماس غير تقليدية مع فضاء دول الحلف. 

هذه الاستجابة الجوية الطارئة للحلف وقعت أكثر من مرة، بعض منها فوق بحر البلطيق وآخر فى منطقة البحر الأسود، على خلفية رصد تحليق لطائرات روسية فى هذه المناطق دون بث أى إشارات مع أجهزة إرسال أو استقبال، وأيضًا من دون خطة طيران، مما فسرته الاستخبارات الجوية لـ«ناتو» بأنها طلعات مفاجئة وصامتة بغرض اصطياد هدف محدد. طائرات الحلف التى حلقت لمطاردة ومراقبة أى انتهاك جوى روسى، خرجت من بولندا والدنمارك وفرنسا وإسبانيا ورومانيا والمملكة المتحدة، أمام مسارات طيران روسى لم يلحظه الحلف من قبل، وهو ما يشى باستشعار خطر داهم إما وشيك أو يلوح فى الأفق، لو جرى تفسير ما قامت به روسيا لاحقًا باعتباره اختبارًا لـ«توقيتات استجابة» ناتو الجوية.