رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملحمة خالد النبوى| راجعين يا هوى.. متعة الدراما الاجتماعية فى رمضان

رائعة أسامة أنور عكاشة تجمع بين التشويق والأكشن والبهجة لتقديم صراع العائلة

محمد سليمان عبدالمالك قدم صياغة عصرية متميزة فتصدر قائمة الأكثر نجاحًا

وفاء عامر إضافة ثرية للمسلسل.. وأنوشكا تقدم أداءً متميزًا بشدة

من بين المسلسلات التى لقيت متابعة من المشاهدين منذ الحلقة الأولى، وسط وجبة دسمة من المسلسلات الرمضانية خلال الشهر الكريم هذا العام، يتصدر مسلسل «راجعين يا هوى» قائمة المسلسلات الأكثر نجاحًا، حيث أعاد لنا روح شهر رمضان زمان، ذلك لأن المسلسل مأخوذ عن رائعة الكاتب الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة، وكتب المعالجة والسيناريو الكاتب محمد سليمان عبدالمالك فى صياغة عصرية متميزة، وخلطة مبتكرة تجمع بين التشويق والأكشن والبهجة لتقديم الصراعات بين أفراد العائلة الواحدة.

يتناول المسلسل موضوعًا أساسيًا وهو العائلة، وهى التيمة أو الموضوع الذى برع فيه وتميز به الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، وتدور القصة حول الصراعات بين أفراد العائلة الواحدة على الميراث الذى يفرق بين الأقارب، وتتغير النفوس بسببه، والمؤامرات التى تدور حول شهوة المال التى تحدث فى الميراث الضخم بين أفراد العائلة الواحدة وأبنائهم وأحفادهم.. إنها فى تقديرى أقرب إلى قصة «لعنة المال» عندما يفرق بين أفراد العائلة الواحدة إلى حد ارتكاب الجرائم بسبب الطمع فى هذا المال.. والبطل هنا هو بليغ أبوالهنا الذى يعود إلى بلده بعد غياب طويل وفشل أعماله فى الخارج لاسترداد ميراثه من عائلته، وما يواجهه من مؤامرات ومشاكل وخيانات من أفراد عائلته، ويؤديه الفنان خالد النبوى، بطل المسلسل الذى لفت الأنظار فى أنحاء الوطن العربى منذ الحلقة الأولى وحظى بمشاهدة عالية، وبهذا الدور يتبوأ خالد النبوى مكانة متقدمة كواحد من أبرز نجوم الصف الأول، واستطاع أن يجعل المشاهد يتابعه أكثر من نجوم آخرين كانوا يحتلون الصدارة فى السنوات الماضية، وهو هنا فى ثانى لقاء له مع الكاتب القدير محمد سليمان عبدالمالك بعد مسلسل «ممالك النار»، الذى سبق عرضه ولقى نجاحًا عربيًا كبيرًا.

 

خالد النبوى يؤدى هنا دورًا جديدًا عليه فى مزيج من الجدية وخفة الدم والطيبة معًا مما جعله قريبًا من وجدان المشاهد، وبرع خالد فى تجسيد خلطة الدور الغريبة، وتمكن من أداء مشاهد الحركه بمرونة ورشاقة، وهو رغم فشله فى الخارج إلا أنه عاطفى مع السيدات والفتيات، ويشعر بجاذبيته معهن ويتمادى فى دور الرجل «الطاووس»، وهو ذكى فى مواجهة المؤامرات العديدة والمشاكل المتشابكة التى واجهته بعد رجوعه من الخارج.. فقد رسم الكاتب محمد سليمان عبدالمالك شخصية لبليغ أبوالهنا تحمل فى داخلها طاقات كبيرة تظهر الواحدة تلو الأخرى من خلال تصاعد المواقف؛ فبليغ أبوالهنا لديه شخصية تجمع بين متناقضات القوة والضعف والذكاء فى التخطيط فى بلده رغم الفشل فى تحقيق النجاح فى الخارج، وهذه إحدى هنّات الشخصية، لأنه يقدم نصائح للجميع بمنتهى الذكاء، ولكنه لا يطبق هذه النصائح على نفسه، بدليل أنه عاد فاشلًا وبدين مالى ضخم يعجز عن سداده أى شخص، والدين نفسه أضخم من أن يتصوره العقل، لأننا لا نعرف كنه هذا المشروع الذى خسر بسببه ٥ ملايين يورو أوروبى، مما يجعل المشاهد لا يتوقع سلوك بليغ فى المشاكل التى تواجهه والأزمات المتتالية الواحدة تلو الأخرى، وهو هنا يحاول لم شمل العائلة وأخذ حقه فى ميراث أبيه وسط جو من الكراهية من أفراد عائلته وخيانة أحد أصدقائه المقربين، وقصص عاطفية تحدث له خلال المشاكل المتتالية، ونكتشف جريمة من خلال الأحداث، ويفاجأ بليغ بالحقائق تتكشف شيئًا فشيئًا، وبمحاولات قتله فى سلسلة من المكائد والمؤامرات المتتالية التى نجد من خلالها أن معظم أفراد العائلة عتاة فى الفساد والانحراف والجريمة، إلا أن هناك شابين يجسدان الخير فى مقابل الشر المتأصل فى العائلة، وهما ابن شقيقه واسمه طارق، الذى يقدم دوره فنان شاب صاعد خفيف الظل ولديه قبول عند المشاهد وهو «نور النبوى»، وهو ابن خالد النبوى، وابنة الشقيق الآخر، التى تؤدى دورها فنانة شابة صاعدة هى «سلمى أبوضيف»، ولها حضور وأداء خفيف الظل وأتوقع لهذين الشابين مستقبلًا وصعودًا سريعًا فى الدراما المصرية، فكلاهما ينتمى لمدرسه الأداء الطبيعى بلا تكلف.

كما لفت نظرى وجذب المشاهدين أداء فنانتين من طراز قدير وخاص جدًا ولدى كل منهما طاقات تمثيلية نكتشفها مع كل دور لهما، وفاء عامر وأنوشكا، خاصة القديرة وفاء عامر التى شكلت إضافة ثرية للمسلسل، فوفاء عامر تبرع فى أداء دور يسرية الأرمل الثرية الوصولية التى نشأت فى حارة صغيرة وهى تنحدر من أصل متواضع لكنها ذات طموح كبير بلا حدود، حيث نجحت فى الزواج من الأخ الأكبر الثرى، وهى ذات جبروت فى تعاملاتها مع الآخرين، وهى سليطة اللسان ولا تعرف القيم أو الأخلاق، ونرى وفاء عامر تبرع فى رسم الشخصية وتضيف لها تفاصيل كثيرة تزيد من حبكة الدور، منها الصوت العالى والتسلط مع أبنائها والعباءات اللافتة الفاخرة وارتداء أساور الذهب الكثيرة لتُظهر ثراءها الفاحش وتتباهى بقوتها مع كل من حولها، بالإضافة إلى حركات باليدين والأصابع وكلها سمات معروفة عند سيدات الحارة ذوات القوة والجبروت والعنجهية.

أما أنوشكا فهى تؤدى دور شريفة، أرملة الشقيق الآخر المتوفى، والتى برعت فى أداء دور سيدة من طبقة عالية وذات جمال وغرور وقوة وحب للمال الوفير والرفاهية وتجسدها بشكل طبيعى وبأسلوب التعالى والعجرفة ونبرة الصوت وتسريحة الشعر والملابس الأنيقة طوال الوقت.

وفى حى الجمالية نرى عم بليغ المصرى المثقف القنوع، الذى يقوم بدوره الفنان القدير أحمد بدير، باقتدار وحرفية وأستاذية فى التمثيل، فهو يجسد أيضًا عراقة حى الجمالية وأهله البسطاء فى أحياء القاهرة القديمة، فنراهم يجسدون البساطة والقناعة والرضا بالواقع وبأقل القليل، ومنهم «سلوى أحمد على ومحمد الصاوى»، فى مقابل جيل أبناء الشقيقين الراحلين الفاحشى الثراء والذين يجسدون الطمع واللهاث وراء المال والانحرافات السلوكية والتآمر والصلف والتباهى بالمال، وبداخلهم نوازع إجرامية بهدف المزيد من الثراء الفاحش وعلى أنقاض أى شىء وأى شخص، ويعيشون بلا مشاعر وبلا مبادئ، ويكمن هنا التناقض بين الطباع الحميدة الأصيلة لبعض من يعيشون فى الأحياء القديمة بالقاهرة والمتغيرات الكثيرة وفقدان القيم والأخلاق، والذى انتشرت مظاهره السيئة وظهرت فى السلوكيات فى الشارع المصرى فى السنوات الأخيرة، مما يعكس فى تقديرى مهارة يمتلكها الكاتب محمد سليمان عبدالمالك، الذى يقدم لنا المتغيرات العديدة والضخمة التى حدثت فى سلوكيات المصريين فى السنوات ما بعد أحداث ٢٠١١، ونرى فسادًا وانحرافات وطمعًا فى المال وخيانة أفراد العائلة الواحدة التى تصل إلى حد قتل الشقيقين.

وهناك أيضًا عدد كبير من الفنانين يقومون بأدوار بارزة لشخصيات المقربين للعائلة، ويقومون بأدوار أساسية وباقتدار، منهم «نور» التى تجسد دور ماجى، الطبيبة النفسية المكبلة بالمشاكل، ولاحظت أنها رغم ما لديها من قبول لدى المشاهد إلا أنه من الملاحظات أنها تقدم دور الطبيبة بانفعالات متواصلة وهزة رأس مستمرة مما يسبب توترًا للمشاهد.. و«هنا شيحة» لها حضور متميز بدور فريدة، وإن كانت شديدة العصبية فى أدائها، ولها مشهد غير لائق حيث تأكل التورتة بيديها مما لا يتناسب مع شابة تعمل فى شركة إعلانات وترتدى ملابس فاخرة.. أما الفنانون طارق عبدالعزيز ومصطفى حشيش وعبير منير وهناء الشوربجى وتميم إبراهيم، والشاب الواعد إسلام إبراهيم، فقد أدوا أدوارهم بسلاسة وبساطة متميزة.

إن هذا المسلسل استطاع أن يذكرنا بروائع أسامة أنور عكاشة الدرامية مثل «ليالى الحلمية، والمشربية، والراية البيضا، وضمير أبلة حكمت، وزيزينيا، وأبوالعلا البشرى، والشهد والدموع»، وغيرها، والتى لا نزال نتذكرها ونحب مشاهدتها ونقبل عليها كلما تم عرضها على الشاشات.. و«راجعين يا هوى» كان فى الأصل مسلسلًا إذاعيًا قديمًا للقدير أسامة أنور عكاشة، إلا أن محمد سليمان عبدالمالك قدم مسلسلًا اجتماعيًا وعاطفيًا وعصريًا خفيف الظل وفى قالب مبهج من خلال المعالجة والسيناريو.. والإخراج تميز بشكل لافت للنظر لمخرج قدير يعد فى تقديرى من أفضل المخرجين على الساحة الفنية الآن، وهو محمد سلامة، الذى أبدع فى تقديم لقطات فنية جميلة للفنانين بداخل بيوت عريقة دافئة تضىء الشاشة بأماكن عديدة فى أحياء مصر القديمة والعريقة، وبإضاءة تريح العين وتبرز عراقة القاهرة القديمة، وهناك مشهد رقصة «تانجو» تذكرنا بلقطة شهيرة بين النجم العالمى براد بيت والنجمة العالمية أنجلينا جولى فى الفيلم الأمريكى الهوليوودى الشهير «مستر ومسز سميث». 

ومن المؤكد أن الحس الفكاهى المبهج الذى يتغلغل وسط الأحداث التى تدور فى إطار تشويقى قد أسهم فى نجاح المسلسل وخفف من وطأة الشعور بالاكتئاب لدى المشاهد؛ بسبب الخيانات المتتالية بين أفراد العائلة الواحدة والشره والشر الذى يحاك لكسب المزيد من الثراء الفاحش الذى هو خيط رئيسى فى المسلسل، والصراعات المتصاعدة بين أفرادها.

إن مسلسل «راجعين يا هوى» هو مسلسل يقف فى صدارة المسلسلات التى أقبل عليها المشاهد فى رمضان دون كلمات نابية أو فجة أو خارجة.. أما المسلسلات الاجتماعية الأخرى التى تابعتها وسأتناولها فى مقالات قادمة فهى «ملف سرى» و«توبة» و«جزيرة غمام» و«أحلام سعيدة».

وفى الختام.. فإن لدىّ عددًا من الملاحظات الأساسية التى يمكن أن تقال حول الدراما الاجتماعية، أولاها: إن هناك جرأة شديدة فى تناول الموضوعات الاجتماعية غير النمطية، وهى تعكس تغييرات كبيرة حدثت فى سلوكيات وعادات المجتمع المصرى من وجهة نظر صناع الدراما وكتّاب السيناريو، أو ورش السيناريو التى أصبحت الآن هى طريقة كتابة الدراما من أجل اللحاق بالشهر الكريم، رغم أن المسلسلات المصرية قد أصبحت تنتج للعرض طوال العام كما كنا نطالب بذلك منذ سنوات، وحتى لا تتركز صناعة الدراما على زخم كبير من المسلسلات خلال الشهر الكريم، وكنت قد طالبت فى بعض مقالاتى بـ«الدستور»، منذ بضع سنوات، بتقديم مسلسلات ناجحة طوال العام، وباختيار موضوعات تعكس الواقع فى دراما جيدة لعرضها طوال العام وعدم اقتصارها على شهر رمضان الكريم، وهكذا بدأنا نشاهد مسلسلات جيدة وفيها جهد واضح طوال العام.

أما الملاحظة الثانية فهى أننى أتمنى أن تستهدف الدراما المصرية الاجتماعية فى الفترة المقبلة تقديم قيم نبيلة وسلوكيات راقية، وأن تسهم الدراما فى صياغة العقل المصرى فى اتجاه الاستنارة والتقدم والتصدى للأفكار المتشددة، وأيضًا التصدى للفجاجة والألفاظ الخارجة والسلوكيات السوقية، لما للدراما من تأثير مباشر وكبير فى سلوك وعقول المصريين. 

والملاحظة الثالثة هى أننا خلال الشهر الكريم قد شاهدنا وجبة دسمة من المسلسلات المتنوعة فى موضوعاتها، والتى بها وجوه كثيرة من الشباب والشابات إلى جانب النجوم الذين يقومون بالبطولة كل سنة خلال الشهر الكريم، مما سيسهم فى الدفع بنجوم جدد خلال السنوات القريبة المقبلة.

والملاحظة الرابعة هى مشاركة بعض الفنانين فى أكثر من مسلسل، مما يشتت انتباه المشاهد بين أدوارهم. 

وأتمنى مع بذل الجهد فى إنتاج مسلسلات ناجحة طوال العام أن تتقدم صناعة الدراما المصرية لتصبح أحد مصادر الدخل القومى، كما أنها تفتح فرص عمل لعشرات العاملين والفنيين فى صناعة الدراما، إلى جانب المزيد من الأعمال الدرامية الناجحة والمتميزة مما يعزز مكانة مصر الثقافية والإعلامية ودورها الثقافى والإعلامى فى المنطقة.

لكن المهم، أيضًا، أن يتم إنتاج دراما هدفها صياغة وعى مستنير، وتسهم فى تحسين السلوكيات والأخلاق، وتنشر قيم الاستنارة والتقدم واحترام الحريات وحقوق المرأة، وإن كان هذا من ناحية أخرى لا ينفى أن الإقبال يكون أكبر خلال الشهر الكريم على الدراما، لأنها أصبحت داخل منظومة عادات المصريين اليومية التى يحرصون عليها خلال الشهر الكريم، حيث يحرصون على الجلوس لمتابعة مسلسلات التليفزيون لساعات طويلة.