رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جهاد النفس وترويضها.. معركة الجسد الواحد

فى إحدى جلساته العرفية المعتادة سمعت حديثه مع أحد الضيوف.. كان الأخير يتحدث عن خبرته في ترويض النفس.. على غير المعتاد لم أذهب إلى غرفتى نفورًا من انشغال أبي الدائم لكونه كبير العائلة.. بقيت قريبة لأسمع خلاصة خبرة ضيفنا.. منذ الصغر وأنا شغفى في الحياة هو التعلم.. خاصة من الكبار، فهم كنز تجارب وخبرات فى الحياة.. وأنا محظوظة لأن بيتنا كان مفتوحًا أمام الجميع.. كان حتى وفاة أبى حلًا لكل مَن تواجهه مشكلة.. وملجأ لكل مَن يقع فى عثرة.

"طول عمرى كل ما نفسي تكون في حاجة معملهاش، لو نفسي في أكلة ماكلهاش، لو البنى آدم طاوع نِفسه فى كل حاجة تحبها هتذله"... قالها الضيف وأبي ينصت في سكون.. أما أنا فارتسمت على شفتاى ابتسامة إعجاب.. إعجاب التلميذ للمُعلم الذى أتقن الشرح من أول وهلة فثبت المعنى واكتمل الدرس.. نشوة التعلم تلك أوقفها أبي بندائه علىّ كالعادة: اعملى شاى يا هبة.. وتبددت نهائيًا بتفكيري في المهمات التى أوكلها أبي إلىّ للتو، والتى ستبدأ بالشاى ويختمها بجهزى العشا.

لم أنسَ جملة ضيفنا الزائر طيلة سنوات.. كنت كلما تذهب نفسي لشىء أبغضه.. أتركه.. وأحيانًا أوجد مبررات لكرهه حتى لا تحن النفس إليه.. ظل هذا منهجى مع أشياء كثيرة بل والأشخاص أيضًا.. الحقيقة أن تطبيقه مريح جدًا.. وسهل جدًا.. حتى وقت قريب.. لمّا تحسست لذة طاعة النفس وإرضائها أصبح الترويض صعبًا.. فالنفس محصنة إذا لم تذق ما تطيب إليه.. لكن يا ويلك إن تركت لجامها.

إن جهاد النفس من أصعب أنواع الجهاد.. فأنت وعدوك في جسد واحد.. مَن ينتصر ومَن يُهزم.. أنت كلاهما.. أنت الغالب والمغلوب.. ليس عليك سوى الارتكان إلى الله وسؤاله الثبات.. وقد حذرنا المولى عز وجل من خطورة اتباع النفس، بقوله: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى" "النازعات: ٤٠"، وقوله "إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي" "يوسف: ٥٣".. وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلَم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب".

وصنف أهل العلم النفس لثلاثة أنواع، النوع الأول هى النفس الأمارة، وهى التى تأمر صاحبها بالسوء ولا يقف بينها وبين صحابها الخوف من الحرام أو الحلال، أما النوع الثانى فهى النفس اللوامة، وهى النفس كثيرة التقلب والتلون فتجد صاحبها يتقلب بين الفرح والحزن، الحب والبغض، الرضا والغضب، الطاعة والمعصية، وقال آخرون عنها إنها سميت لوامة لأنها تنقسم إلى شقين.. لوامة ملومة: وهى النفس الظالمة والجاهلة التى يلومها الله وملائكته، ولوامة غير ملومة: وهى التى تلوم صاحبها دائمًا على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، أما النوع الثالث فهى النفس المطمئنة، وهى التى تطمئن إلى ربها وتتوكل عليه وترضى بما يكتبه الله لصاحبها فيرُد الله قلبه الشارد إليه.

ما استغرقه أهل العلم والدين لشرح وتفسير جهاد النفس، اختصره ضيفنا الزائر الذى ربما لم ينل من العلم إلا القليل عندما قال بفطرته: "لو البنى آدم طاوع نفسه في كل حاجة تحبها هتذله".. فنسأل الله أن يعين نفوسنا على ما لا طاقة لنا به.. وأن يرزقنا الثبات في جهاد كل ملذات الحياة.