رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من «القصف الروسى» لـ«زغاريد العودة».. كواليس أزمة البحارة المصريين في أوكرانيا

البحارة المصريين
البحارة المصريين

في يوم 12 أبريل الماضي، استقبل "محمد" ورفاقه اتصالًا هاتفيًا من قبل السفارة المصرية في روسيا، ليبلغوهم بموعد عودتهم إلى الأراضي المصرية، وانتهاء أزمة احتجازهم التي دامت 50 يومًا بين ميناء خيرسون الأوكراني، وشبه جزيرة القرم الروسية، وصولًا إلى أرض الوطن في النهاية.

مسافة طويلة قطعها البحارة المصريون، استغرقت ١٥ ساعة للانتقال من شبة جزيرة القرم إلى مطار سوتشي الروسي، وفي الساعات الأولى من فجر الخميس الماضي، وصلوا إلى مطار القاهرة الدولي بعد إقلاعهم على متن طائرة الخطوط الروسية. 

وبعد طول انتظار، بلغ مهندس الميكانيكا البحري محمد محمود وزملاؤه الأراضي المصرية، واستنشقوا هواءها، بعد أن تخلصوا من استنشاق أدخنة القصف، كلما نظروا حولهم  يجدون الأراضي الخضراء والمناطق العمرانية، وليس الألغام التي حاصرتهم في النهر، ولا الخراب الذي شاهدوه في البر.

الفرحة التي شعر بها البحارة لحظة وصولهم مطار القاهرة، أوقفت ذهنهم عن التفكير تمامًا، حتى أنهم نسوا إلقاء التحية على بعضهم البعض، أو التقاط الصور التذكارية كما اعتادوا على فعل ذلك في كل محطة يقفون فيها خلال رحلتهم.

البحار المصري محمد محمود


يجلس "محمد" حاليًا في منزله وسط ذويه بمدينة رشيد، متذكرًا الليالى السوداء التي عاشها حين كانت حياته معرضة للخطر في أي وقت، مرجعًا الفضل في إنقاذه إلى المسؤولين المصريين الذين حاولوا جاهدين إجلاء البحارة العالقين من ميناء خيرسون الأوكرانى.

بداية الأزمة

ربما ما تعرض له ورفاقه كان يجده فصلًا في عمل روائي، مشهدًا تمثيليّا في فيلم مأساوي، لكن لم يطرق ذهنه يومًا أنه سيعيش واقع تفاصيله، ويكون بطلًا من أبطاله، شاهدًا ومعايشًا لكل ما مر عليه من أحداث مرعبة، سجلتها ذاكرته وحفظتها بسرعة رهيبة كسرعة الرشقات الصاروخية المحلقة فوق رأسه على متن القارب. 

١٢ رحلة بحرية خاضها مهندس الميكانيكا البحري، خلال ٧ أشهر، في نقل السلع والمواد الغذائية من دولة أوكرانيا لمختلف الدول العربية والغربية، ولكن اختلفت رحلته الأخيرة تمامًا، فكانت أشبه بالرحلة المميتة التي حبست لها الأنفاس، وكادت أن تخطف أرواح جميع من هم على متن القارب.

انطلقت المركبة التجارية "ريك نوبل" المملوكة لقبطان لبناني من السواحل الليبية في منتصف فبراير الماضي، قاصدة  دولة أوكرانيا، حاملة على متنها ١٧ بحارًا مصريًا من مختلفي الأعمار، من عدة محافظات "الإسكندرية، البحيرة، المنوفية، دمياط"، فضلًا عن بحار سوري وآخر لبناني الجنسية، كانت ربما تكون تلك الرحلة هي الأخيرة في مسيرة إبحارهم. 

استغرقت رحلة الإبحار أسبوعًا حتى وصلت يوم ٢٣ فبراير الماضي إلى ميناء "خيرسون" الأوكراني، مستهدفة الحصول على شحنة كبيرة من محصول القمح، وتوصيلها إلى مدينة  "كازابلانكا" بدولة المغرب، خلال فترة وجيزة لا تتعدى ٥ أيام، لكن حدث ما لم يكن متوقعًا وبعيدًا عن أذهان الجميع، ليتفاجأ البحارة باحتمالية حدوث حرب عالمية ثالثة. 

ماذا يحدث؟

صدمة كبيرة تعرض لها المهندس الثلاثيني فجر يوم ٢٤ فبراير، خلدت في ذاكرته ولم ينساها أبدًا، حين سمع صوت انفجار في البر بالقرب من الميناء أثناء إشرافه على محرك السفينة، فخرج مهرولًا من كابينة القارب، وهو في حيرة شديدة من رؤية النيران المتصاعدة والأدخنة المتطايرة، ليدرك سريعًا أنها بداية الحرب الروسية الشنيعة.

لم تتوقف أصوات الصواريخ والانفجارات ليلًا ونهارًا، تُطلق دون مواعيد محددة ولا سابق إنذار، لم يذق طعم النوم، إذا غلب عليه النعاس بين الحين والآخر، يستيقظ من شدة الفزع، ليرى منظر السحاب  في السماء في حزن تام، مرتديًا عباءة سوداء كأنه في مأتم، يشكو من قوة الانفجارات، وكثافة النيران والأدخنة.

مشاهد القصف من داخل المركب

"الموت كان قريبا مني أوي، كنت خايف طول الوقت وأنا شايف القذايف المتبادلة بين طرفي الحرب فوق رأسي"، هكذا وصف "محمد" المشهد المأسوي الذي عاشه، آملًا في ذلك الحين ألا يتعرض القارب للقصف، أو يصاب أحد البحارة، فكان كل ما يدور في مخيلته حينها إذا أصيب أحدهم لن يستطيعوا إسعافه وإنقاذه. 

ورغم كل ذلك كان حين يتواصل مع ذويه عبر الإنترنت، يسعى جاهدًا لبث الطمأنينة في قلوبهم بأنه بعيد تمامًا عن دوائر الخطر، ويحاول أن يقضي على هواجسه بكون تلك المكالمة ربما تكون المكالمة الأخيرة. 

خطة النجاة 

تحديات وتخوفات عدة واجهها المهندس على متن القارب، بدءًا بخوفه من مشكلة حاجتهم للطعام، مرورًا بمعاناتهم من قلة المياه، وصولًا إلى انخفاض كمية الغاز اللازمة لسير المركب، ولم يكن أمامه سبيل سوى إعداد خطة حكيمة للاقتصاد قدر الإمكان في مخزون ما يمتلكوه من أطعمة ومياه.

وأضاف البحار في حديثه لـ"الدستور": "مياه النهر النظيفة كانت هبة منحتها العناية الآلهية لإنقاذنا من الموت عطشًا، فقد ساعدتنا على مواكبة خطتنا، واستخدمناها في الاستحمام والنظافة الشخصية، وخصصنا زجاجات المياه المعدنية للشرب، وقمنا بتوزيعها بالتساوي بيننا؛ حتى لا تنفذ منا بسرعة، كما حرصنا على تناول كميات قليلة من الطعام". 

حصار روسي 

نبضات قلب متسارعة سيطرت على مهندس الميكانيكا البحري، حين تلقى قائد السفينة اتصالًا من جندي روسي، يخبره بسيطرة القوات الروسية على الميناء، ويحذره من تحرك القارب؛ كون النهر مرشقًا بالألغام، وأي حركة ناجمة ستفضي على حياة من هم بالقارب.

"حسيت إني اتحبست، لا طايل سما ولا أرض، وملقتش حل غير تلاوة القرآن، والدعاء لله بإنقاذنا"، ذلك كان شعور "محمد" عند سيطرة الجيش الروسي على الميناء، فكان ذلك أصعب موقف تعرض له طوال حياته. 

وبعد مرور 10 أيام على بداية الحرب الروسية الأوكرانية، ظل وضع البحارة كما هو عليه، دون منقذ، لا أحد يسمع استغاثاتهم ولا صرخاتهم، منتظرين مستقبل مجهول، مستمعين لأزيز الطائرات ورؤية مشاهد النيران، محاصرين بالألغام، حتى اقترح أحدهم التواصل مع السفارة المصرية بدولة روسيا عبر الإنترنت.

مشاهد القصف من داخل المركب ليلًا

تفاؤل بعد الخذلان 

دّب الأمل مجددًا داخل قلوب جميع البحارة حين استجابت لهم السفارة المصرية، وباتوا على تواصل معهم؛ لاطلاعهم على آخر التطورات، باحثة عن وسيلة لإخراجهم بأمان في ظل كافة الظروف الصعبة من الألغام الموجودة بالنهر، والقذائف المتطايرة بالجو.

سعادة عارمة ممزوجة ببعض الحزن، شعر بها المهندس عندما أخبرته السفارة بالاستعداد للخروج من الميناء، كونه سينجي بحياته، ولم يعد مقيدًا بالألغام، ولكن خيم عليه الخزن، لتركه المركب التجارية التي كان يعمل بها.

"كانت مغادرة المركب لحظة فارقة في حياتنا للنجاة بأرواحنا، كميات الطعام التي بحوزتنا نفذت تمامًا، زجاجات المياه أصبحت فارغة جميعها، الوقود المتوافر لدينا أوشك على النفاذ، بقينا يومًا يومين بدون تلك المقتنيات والاحتياجات الضرورية للعيش، وتساءلنا جميعًا في ذات اللحظة، ماذا سيكون مصيرنا؟"، يستطرد "محمد". 

داخل اللنش 

١٤ بحارًا، منهم ١١ مصريًا تسلقوا داخل لنش صغير يبحر بسرعة الصاروخ، يقوده جندي روسي، وذلك في آخر يوم بالأسبوع الأول من شهر أبريل، استغرقت رحلة وصولهم إلى رصيف ميناء "خيرسون الروسي" ربع ساعة فقط، وذلك بعد قضائهم ما يزيد عن ٥ أسابيع في عرض نهر "دنييبر".

قامت الشركة المالكة للمركب التجارية بإغراء ٧ من البحارة المصريين بمضاعفة راتبهم مقابل البقاء داخل المركب، والاعتناء بها وعدم تركها بمفردها داخل الميناء، ففضلوا البقاء، وودعوا أقرانهم من البحارة العائدين إلى البر.

٤٠ يومًا قضاها البحارة وسط ألغام النهر تحت أصوات الانفجارات الصاروخية المتبادلة بين القوة الروسية الغاشمة التي تسعى لبسط نفوذها وتوسيع رقعة حدودها، والمقاومة الأوكرانية التي ترفض التخلي عن أرضها.

الفندق الروسي

مساء الخميس، الموافق ٧ أبريل الماضي، وصل البحارة إلى أحد الفنادق بشبة جزيرة القرم الروسية، ورغم المعاملة الحسنة والاستضافة التي لاقها "محمد" ورفاقه بالفندق، إلا أنه ظل يبحث عن الاستقرار، ومازالت مخاوفه تطارده، ومشاهد القصف لا تترك مخيلته، راغبًا في شعوره بالأمان بعودته إلى مسقط رأسه.

البحارة المصريين في الفندق الروسي

"مكثنا في الفندق ٤ أيام، حتى أخبرتنا السفارة المصرية بموسكو، بتجهيز أنفسنا استعدادًا للسفر، حينها طرقت الفرحة قلوبنا، وكان ذلك الخبر بمثابة حلما طالما تمنينا تحقيقه منذ بداية الحرب واحتجازنا في النهر والبر"، بتلك الكلمات وصف "محمد" شعور البحارة في ذلك الوقت الحاسم. 

البحارة المصريون عادوا الآن إلى وطنهم، يشعرون بالأمان في كل لحظة يعيشونها وسط ذويهم، ربما سيترددون كثيرًا في السفر مرة أخرى خلال الفترة المقبلة، لكن ثقتهم ببلادهم لن تهتز لثانية واحدة، فقد علموا جيدًا أن وقت الأزمات سيظهر من ينقذهم ويساعدهم في تخطيها.

البحارة في مطار سوتشي الروسي