رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هزيمة كاريكاتيرية فرنسية

معركة كاريكاتيرية، بالمعنيين الحرفى والمجازى، فازت فيها روسيا بالنقاط، فى عدة جولات سابقة، ثم بـ«ضربة قاضية» وجهتها، أمس الأول السبت، المتحدثة باسم خارجيتها للرئيس الفرنسى، حين أعرب عن استيائه من رسم كاريكاتيرى يسخر من العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، نشرته السفارة الروسية فى باريس، واضطرت إلى حذفه بعد استدعاء الخارجية الفرنسية للسفير!.

فى الرسم الكاريكاتيرى نرى طبيبًا اسمه «إمبراطورية الأكاذيب» يرتدى قبعة تحمل علم الولايات المتحدة، وآخر اسمه «الرايخ الأوروبى»، على قبعته علم «الاتحاد الأوروبى»، وأمامهما مريض اسمه «أوروبا»، يقومان بحقنه بـ«كراهية روسيا» و«النازية الجديدة» و«كوفيد-١٩» و... و... و«ثقافة الإلغاء».

لم تمر ساعات على قيام السفارة الروسية بنشر هذا الرسم فى حسابها على «تويتر»، حتى انتقدتها الخارجية الفرنسية واستدعت السفير الروسى. ثم انتقدها أيضًا الرئيس الفرنسى، خلال مؤتمر صحفى عقده بعد قمة الاتحاد الأوروبى، فى بروكسل، واصفًا نشرها الرسم بأنه خطوة غير مقبولة. ثم أشار إلى أن الخارجية الفرنسية أبلغت استياءها للسفير الروسى، وأنهى كلامه بقوله: «تم تصحيح هذا الخطأ.. وآمل ألا يتكرر».

فى مقتل، أصابت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الخارجية الروسية، الرئيس الفرنسى وخارجيته، بأن سألت فى قناتها الرسمية على موقع «تيليجرام»: حقًا؟! أليس رؤساء ووزارة خارجية فرنسا هم الذين كانوا يعلّموننا بأن أى رسوم كاريكاتيرية أمر طبيعى، حتى تلك الرسوم الفظيعة التى نشرتها «شارلى إبدو»؟، مضيفة: «لقد قررنا اتباع نصيحتهم واستخدام الهجاء، الذى يعتبرونه دليلًا على حرية التعبير، والآن لا يعجبهم شىء».

بالفعل، سبق أن أعطى الرئيس الفرنسى للعالم دروسًا فى حرية التعبير، ودعا إلى التعامل بكياسة وتعقُّل مع المختلفين فى الرأى. ومن العاصمة اللبنانية بيروت، دافع عن قيام مجلة «شارلى إبدو» بإعادة نشر الرسوم المسيئة للنبى محمد. وقال فى مؤتمر صحفى عقده هناك، فى ١ سبتمبر ٢٠٢٠، إن أى شخص فى فرنسا بإمكانه أن ينتقد من يحكم وله أيضًا «حق التجديف». وأكد واجبه، كرئيس للجمهورية، يفرض عليه «حماية كل هذه الحريات». والمعنى نفسه تقريبًا كرره، أواخر أكتوبر ٢٠٢٠، على شاشة «الجزيرة» القطرية.

كانت «شارلى إبدو» قد قررت، فى ذلك الوقت، انتهاز فرصة بدء محاكمة المتورطين فى الهجوم على المجلة، وإعادة نشر الرسوم التى أثارت غضب المسلمين فى العالم. ثم تطور الأمر بعد قيام إرهابى، منتصف أكتوبر ٢٠٢٠، بطعن مدرس تاريخ عرض الرسوم نفسها على تلاميذه فى حصة عن حرية التعبير. وخلال تلك الأحداث، كسبت روسيا نقطة، بتعليق متوازن أكد فيه ديميترى بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، أن مجلة مثل «شارلى إبدو» لن يتم السماح بتداولها فى روسيا، احترامًا لحوالى ٢٠ مليون مسلم يعيشون فيها. وبعد أن وصف عملية الطعن بأنها «مأساة مروعة»، قال أيضًا: «من غير المقبول الإساءة إلى مشاعر المؤمنين، وفى نفس الوقت من غير المقبول قتل الناس. كلاهما غير مقبولين على الإطلاق».

نقطة، أو جولة، أخرى، كسبها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، أيضًا، حين تحدث عن تلك الرسوم المسيئة، أواخر ديسمبر الماضى، معربًا عن قناعته بأنه لا يمكن تبرير إهانة مشاعر المؤمنين بحرية الإبداع. وبالنص قال: «يجب علينا توفير الحرية بشكل عام، لأن مستقبلًا محزنًا ومملًا ينتظرنا دونها، لكن مع إدراك أن هذه الحرية تتناقض مع أهدافنا عندما تعبث بحرية شخص آخر». وتابع: «هل تمثل إهانة النبى محمد حرية الإبداع؟ لا أعتقد ذلك». ثم استدعى الهجوم الإرهابى الدموى، الذى استهدف مقر «شارلى إبدو» فى باريس، منذ سنوات، بعد نشرها الرسوم المسيئة، مطالبًا بضرورة عدم السماح بمثل هذه الحوادث المأساوية.

.. وتبقى الإشارة إلى أن فن الكاريكاتير، الذى يقوم بالأساس على المبالغة فى تحريف الملامح، لخلق بُعد ساخر للشخصيات أو الأحداث، عادة ما يصطدم بقيود تفرضها عليه السلطات السياسية والدينية والاجتماعية، فى الغرب قبل الشرق. ولعلك تتذكر، مثلًا، أن جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية، أوقفت تمامًا نشر رسوم الكاريكاتير فى طبعتها الدولية، منذ يونيو ٢٠١٩، لمجرد استياء السلطات الإسرائيلية من رسم كاريكاتيرى، رأته مسيئًا لرئيس وزرائها السابق!.