رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في انتظار الزعيم لـ"الصباغ" رؤية مختلفة لعصر عبدالناصر

جريدة الدستور

أراد عبدالناصر أن يُخرج الفريق "صدقي محمود"، قائد سلاح الطيران المصري، لسوء أدائه في حرب السويس 1956، ولكن عبدالحكيم عامر رفض ذلك وأصر عليه!.

عبارة لا غبار عليها وتعتبر مفتاح الحديث عن جمال عبدالناصر وما حوله من رجال، سوف نطلق عليهم رجال ناصر، وتاريخيا رجالات ثورة يوليو 1952، ولكننا لن نستعجل خوض غمار تلك المساجلة الفردية، فلا بد من التعريف بالكاتب والكتاب قبل الولوج إلى عالم "في انتظار الزعيم" للكاتب الروائي محمد صبري سالم الصباغ، الذي يقدم لنا هذا العمل بعد اكثر من 15 مؤلفا متنوعا، ومن الناحية الأيديولوجية والفكريه فقد أعطى العرب والعربية نصف عمره ولا يزال.

قدم عددا من الاعمال الروائية والقصصية وحتى تلك التي تبحث في "أسرار القلوب بين العلم والقرآن"، إضافة لعدد من المجموعات القصصية والروايات، لكنه في هذه المرة يدهشك، حيث تلعب السياسة دورها في أن يسرد بحس الراوي وقائع من الزمن الفائت، ولعله يقصد الزمن الآتي في بضع سنين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الكاتب والروائي محمد صبري الصباغ بقدرته الميلودرامية المدربة على انتزاع نفسه من ثوب القصة والرواية الذي اشتهر به على مدار عقود يقدم لك لونا آخر من رواية الواقع والدخول إلى عالم قاسٍ ومتجبر، يتصارع فيه البشر بمهارة الثعالب ووحشية الدناصير المنقرضة ذات الفكوك المسلحة بالاسنان كالمنشار، والتي تجدها كالميكنة الصناعية تدور بسرعة الصاروخ فلا ينجو منها أحد، هذه الوصوف على غير المألوف تستدعي للافهام عالم السياسة ذا البحر اللجب الواسع والدهاء المركب والمحسوب بدقة تفوق الساعات المتقنة الصنع.

ومع حرص الكاتب المخضرم على أن يكون كتابه السياسي هذا في صورة قصصية مشوقة، ووفق المقايس الكتابية الفنية الدقيقة المعروفة لعالم القصة والرواية التي يختلط بها المواقع مع بعض التحرر الخيالي، نجده ايضًا لا يقدم كتابا في السياسة وكفى، فليس هو ذلك المؤرخ العتيد البعيد الغور في التحليل والتعليل مثل اساتذتنا الكبار المعاصرين "شوقي عطا الله الجمل، عاصم الدسوقي، السيد فليفل، رأفت عبدالحميد، رءوف عباس، أحمد يوسف القرعي، عبدالعظيم رمضان، وكثيرين ممن اشتهروا بذلك" وبالطبع هو لا يجاري محمد حسنين هيكل، الصحفي السياسي الميال إلى تتبع الوثائق والبحث في الأرشيفات العالمية عما يخص الفترة "ملفات السويس"، ولا ينهج منهج الصحفي الكبير "محسن محمد" ذى الطريقة المتشعبة في البحث عن الحقيقة.

فى قصة "مصر والسودان: الانفصال بالوثائق السرية البريطانية والأمريكية" نحن أمام روائي ذى ثقافة موضوعية تاريخية، وطريقة أخرى في تناول أحداث تلك الفترة المهمة بعيدة عن طريقة الصحفيين الأساسية والمؤرخين الأكاديمية العلمية، أقرب ما تكون إلى الأحداث الحية المباشرة لفيلم روائي طويل يعتمد في الاساس على عمق إحساس الكاتب الذاتي تجاه الأشياء المباشرة بحقبة الناصرية وثورة جمال عبدالناصر الاجتماعية والسياسية، وفكره النضالي العربي، وتمسكه بذلك لآخر لحظات حياته.. يلخص المؤلف في تقديمه للعمل الدافع وراء إصدار "في انتظار الزعيم" أنه لا ينتظر ناصر الذي قضى إلى رحمة الله تعالى، وأدى رسالته بشكل أو آخر، ولا يزال يحظى بحب الجماهير بعد مرور خمسين عاما على رحيله "1970"، فجوهر ذلك الاعتراف بحب الجماهير له وذكرهم إياه من خلال التاريخ والأفلام والخطب والإنجازات قائم على أن ناصر زرع في وجدان مصر زهرة المقاومة وتحدي المحال والصعب، وإذا كان لم ينتصر في حياته بعد حرب الأيام الستة أو خمسة يونيو حزيران عام سبعة وستون، فإنه كان على طريق النصر وكسر إرادة إسرائيل وقدرتها على الاستمرار في احتلال الاراضي المصرية، عبر إشعاله حرب الاستنزاف التي دامت ثلاثة أعوام، وإعداده للجيش المصري الذي استرد زمام المبادرة وخاض حرب عام 1973.

ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن ناصر أسهم في تلك الحرب وذلك النصر، وإن لم يقدر له أن يعيش إلى تلك اللحظة التي ارتفع فيها العلم خفاقًا على الضفة الشرقية وفوق حصون بارليف المنيعة والقري الصغيرة التي صنعتها اسرائيل البائسة وكلفتها الملايين، والتي تهدمت منذ لحظة بدء العمليات العسكرية ظهر السادس من أكتوبر، العاشر من رمضان، عام 1973.

إن دافع الكاتب يظهر وقد أحيا مع اللحظات المجيدة الأخطاء والمبررات والأجوبة عن أسئلة الجيل الجديد حول ناصر وحرب الاستنزاف وعلاقات الافراد في أقصى هرم السلطة، ودولة مخابرات صلاح نصر، وقيادة عبدالحكيم عامر وشمس بدران، وأساطين السياسة والساسة الغربيين، من معنا ومن ضدنا ومن ادعى أنه معنا وكان يعمل في الخفاء ضدنا، من العرب والعجم والترك والتتر وسائر ذوي السلطان الأكبر، يشير الكتاب أيضا للمخلصين من أبناء الوطن، والذين تعددت مهنهم ومشاربهم وشوارد أفكارهم، ولكنهم رغم ذلك الأمر كانو رجالا ونساءً في صلب وقلب المعارك وصد الهجوم عن مصر والمصريين، ولا أبالغ إن قلت إن العرض البانورامي ذلك الذي تنقل بين شخصيات الكتاب كان أمتع وأجلّ ما في قصة مصر في فترة الزعيم طيب الذكر جمال عبدالناصر.

لقد تقوى ناصر بهم وتقوا به، فزادهم إيمانا بقضية الأمة العربية ومصيرهم المشترك، ولذلك عزز هذا العرض، الذي دام 188 صفحة من الحجم الكبير، رؤيتي من أن الكاتب محمد صبري الصباغ ينتظر الزعيم الذي سيخرج من بين الشعب المصري مرة أخرى، يعيد سيرة النضال ضد استعمار العولمة الذي زرع الفتن في ربوع الأمة العربية وساهم بداء الفساد والمصالح المالية الرأسمالية العفنة في سوء عدالة التوزيع في المجتمع، فلا تسلم الشعوب الغنية أو الفقيرة من ذلك الفساد والمصالح المترتبة عليه، ولا يزال محور الإيمان بمصر وأمنها القومي وبعدها العربي ضد هجمة وحصار الغرب متعدد الأطراف والطرق في انتظار الزعيم، انتصارا لكل ما يمثله ناصر من عروبة واستنفار للقوى الكامنة في هذا الشعب، وأنا على يقين أنه لن يطول الانتظار.

*روائي عضو اتحاد كتاب مصر