رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. عبدالباسط هيكل لـ"أمان": أبناء الجماعات يتخيلون أنفسهم حُراسًا للدين ومصدرًا للسلطة والضمير

جريدة الدستور

الحقد المقدس هو هدم الدولة الوطنية المعاصرة

أبناء الجماعات يتخيلون أنفسهم حُراسًا للدين

عبدالوهاب عزام كان باحثا وأديبا ومؤرخًا ومتصوفًا ورائدًا للنهضة التعليمية

تصدى "سالم عزام"  للإنجليز بعد فشل الثورة حتى نفى إلى مدينة الخرطوم بالسودان

مصر فى مطلع القرن العشرين كانت تحمل وجهًا جديدًا فى الاجتماع والسياسة والثقافة أدبًا وفنًا وفكرًا

الإخوان المسلمون ليست حركة سياسية مدنية

الخطاب الإصلاحي فى فكر السفير عبدالوهاب عزّام يقترب من المتصوف الذي يتقرب إلى الله بحبّ الناس جميعًا

من المغالطات تجاهل دور الإخوان في مكتب خدمات الأفغان الذي أشرف عليه الأردني عبدالله عزّام واستكمله كمال السنانيري 

د. عبد الباسط هيكل، باحث وأكاديمي مصري، متخصص في تحليل بنية الخطاب الديني، يعمل أستاذا للعلوم العربية وآدابها بجامعة الأزهر، له عدد من المؤلفات أهمها "باب الله..الخطاب الديني بين شقي رحي"، ويقصد به رحي المؤسسة الدينية وخطابها المنغلق في بعض الأحيان، ورحي الجماعات الإرهابية التي صك الرجل لها مصطلحا جديدا في غاية الأهمية والدلالة، وهو "جماعات امتلاك الحقيقة" أو "جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين".

هيكل مؤخرا أخرج لنا كتابا من نوع جديد وفكرة جديدة وهو "الحب والحقد المقدس حوار الجد والحفيد" في قالب سردي تتداخل فيه الأجناس بأسلوب يمزج بين فن السيرة وأدب الرحلة والرؤية النقدية حوارًا فكريًا متخيلًا بين زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي أيمن الظواهري (الحفيد)، وجدّه لأمه السفير الأديب المتصوف المستنير عبد الوهاب عزام، مقارنة تحتاجها أجيالنا الحالية لنتعرف علي الفوارق بين الجيلين، وما وصل به حال جيلنا.. وإلي هذا الحوار: 


* حاورت الجد والحفيد من جامعة مهجورة.. لماذا هذا التخيل المبدئي في كتابك؟ 

- إشارة إلى واقع الجامعات التي أمست بعيدة عن الحوارات الفكرية الجادة التي تطرح الأسئلة التي تشغل الشباب، وتُناقش القضايا التي تُؤرّق المجتمع، وفى مقدمتها أفكار الجماعات، والمرتكزات التي تنطلق منها، فالحوار الفكري الدائر على صفحات الكتاب انطلق من داخل جامعة مهجورة جمعت الجد والحفيد وأقرانهما ليُناقش المسكوت عنه من عشرات الأسئلة التي تُؤرق أبناء الحركة الأصولية والمتعاطفين معها بدافع من خوفهم على ضياع الهوية، وعشرات الأسئلة التي يُثيرها الإصلاحيون بدافع من شعورهم بالقلق الحضاري.. الكتاب يقترب من الأفكار والمفاهيم الشائكة فى تصورات كلا الجانبين بلغة واضحة قريبة إلى القارئ.

* متى بدأت معرفتك بعبدالوهاب عزام؟

- استوقفني نتاج عبدالوهاب عزام المتميز، فلمست فيه باحثا وأديبا ومؤرخا ومتصوفا ورائدا للنهضة التعليمية فى السعودية حيث أشرف على تأسيس أول جامعات المملكة بتوجيه من الملك فهد وكان ما زال أميرا، يتولى وزارة المعارف آنذاك، ونشرت بحثا حول نتاج عبدالوهاب عزّام سنة ٢٠٠٨، وعندما اختارت هيئة قصور الثقافة الدكتور عبدالوهاب عزام الشخصية الثقافية لمحافظة الجيزة عام ٢٠١٥، وتواصلت الهيئة مع أسرة السفير عبدالوهاب عزام، رشحتني الأسرة للهيئة للتعريف بعزام، فكان كتابي "عبدالوهاب عزام فارس فن الخاطرة"، الذي صدر عن هيئة قصور ثقافة الجيزة.

* وكيف فكّرت فى الربط بين الجد والحفيد؟

- اختياري لخطاب أيمن الظواهري لأستكمل به ما بدأته من تحليل لبنية خطاب الجماعات الدينية، ولقُرْبي من عائلة عزّام وترددي على الراحل الأستاذ الدكتور محفوظ عزام خال أيمن الذي أتاح لي فرصة التعرّف على كتابات السفير عبد الوهاب عزّام وبعض كتابات أيمن. 

* أين تعيش أسرة عزام؟ 

- تعود جذور آل عزام إلى قرية الشوبك الغربي بالجيزة، وهي أسرة لها تاريخها الوطني والسياسي، فسالم بك عزام كان ناظر مديرية الجيزة، وأحد المشاركين فى ثورة أحمد عرابي، وظلّ يتصدى للإنجليز بعد فشل الثورة حتى نفى إلى مدينة الخرطوم بالسودان، وظلّ بها حتى تُوفى، ودفن بها. 

وجد جد أيمن الظواهري هو حسن بك عزام من أعيان الجيزة وعضو أول المجالس التشريعية المصرية مجلس شورى القوانين، ووالد عبد الوهاب عزام هو محمد حسن بك عزام عضو منتخب بالجمعية التشريعية فى المجلس النيابي الأول فى مصر بعد دستور ١٩٢٣، واختير نائبا عن دائرة حلوان أكثر من مرة حتى وفاته سنة ١٩٤٠، وبعد رحيله انتخب عبد الفتاح الأخ الأكبر لعبد الوهاب نائبا عن الدائرة نفسها. وعمّ عبد الوهاب عزّام هو عبد الرحمن بك عزام عضو مجلس شورى القوانين، والذي اختير وزيرا للأوقاف، ثم وزيرا للشؤون الاجتماعية، وهو أول أمين عام للجامعة العربية فى مارس ١٩٤٥. 

* إذا أردنا أن نلخص العلاقة بين الجد والحفيد.. فماذا نقول؟

- رغم أن أيمن الظواهري مثل أبناء الجماعات الدينية المسلحة فى رفضهم التصوف وكرههم المتصوفة، إلا أنّه كان محبّا لجده عبدالوهاب عزّام، ومعتزا به، ففى المواضع القليلة التي استدعى جدّه فى كتاباته كان يتذكر مكتبته ومسجده بحلوان، ويتحدّث عن علمه دون أن يتطرق إلى تصوف جدّه العملي والبحثي.

من جانب آخر، إذا أردت أن أُلخص العلاقة بين حياة وفكر الجد والحفيد فيمكننا أن نقول علاقة تضاد وتناقض التي تعكس بدورها تناقض بين مصر فى عشرينيات القرن الماضي ومصر فى السبعينيات، فمصر فى مطلع القرن العشرين كانت تحمل وجها جديدا فى الاجتماع والسياسة والثقافة أدبا وفنا وفكرا وكانت قادرة على إحداث نهضة وحراك حقيقي فى مختلف المجالات، إلا أن هذا التيار التجديدي الحيوي المتدفق فى شرايين مصر أعاقه تكتل صخري اسمه "جماعات امتلاك الحقيقة" أو "جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين" الذي أعاق مجرى تيار التجديد المندفع فى شرايين مصر. 

الجد والحفيد نمطان مختلفان من التفكير، فالجد السفير عبدالوهاب عزّام، كما قدّمه الكتاب، تعلّم من دراسته فى العلوم الإنسانية أن تغيير المجتمعات يأتي عبر بناء الوعي، فهذا هو الدواء.. فنجاة الأمة ليس فى انقيادها لكن فى تفكيرها؛ لتتعرف بالعقل إلى ماهية منهج الله.. والحفيد أيمن الظواهري يُمثّل نموذجا، كما يُقدم نفسه، للطليعة المجاهدة النواة الصلبة التي بدأت من الإخوان المسلمين ثمّ رشّد مسارها تنظيم الجهاد المصري على حد قول أيمن، فتنظيم قاعدة الجهاد العالمية، ويرى أن نجاة الأمة فى انقيادها خلفهم لتصل إلى منهج الله.. ومن يختلف معهم فهو فاسد يستحق البتر. 

* لماذا أدخلت الإخوان المسلمين فى جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين، ما رأيك فيمن يراها حركة سياسية مدنية؟

- الإخوان المسلمون ليست حركة سياسية مدنية؛ لأنّ الحركات السياسية المدنية لا تتحرك فى إطار من السرية الشديدة وفق قواعد تنظيمية غير خاضعة للقانون، ولا تعمل كجماعة شمولية مثل الإخوان المسلمون بموجب لائحة تُنافى قوانين العمل المؤسسي، ولا تصعيد داخل الجماعة إلا ببيعة من أركانها السمع والطاعة والجهاد. 

* من أين أتت فكرة العنوان الحب المقدس والحقد المقدس في كتابك الأخير ؟ 

- الحب المقدس يُشير إلى الخطاب الإصلاحي فى فكر السفير عبد الوهاب عزّام، فالمتصوف يتقرب إلى الله بحبّ الناس جميعا، ويرى أن توحيد الله أول طريقه محبة الله حبّا يزول معه كل كراهية لإنسان، فلا مكان فى قلبه للغلّ والسخط والتعالي.. يؤمن بأن الإنسانية عالم كبير نفتقده فى ثقافتنا رغم أنه من ديننا.. نختلف لنتعارف.. ويُركز على أنه لا بديل عن تعزيز الفكر العقلاني والمرجعية الأخلاقية، وبسط قيم الحوار والتواصل، وتعزيز قيمة السلام سبيلا للأمن الاجتماعي والعيش المشترك، وأنه لا نجاة للعالم إلا بالتشبث بالوسائل السلمية لحل المنازعات، والتخلص من بواعث العنف والحروب.

على النقيض نقل أيمن الظواهري عن شيخه عبدالله عزام، إحدى المرجعيات المشتركة بين الإخوان وتنظيم الجهاد العالمي قوله: "كراهية غير المسلم ومن ناصرهم من المرتدين والحقد عليهم واجب مقدّس، وأننا فى حرب مفتوحة مع العالم حتى يخضع العالم كله لسلطان الإسلام، وأن مبدأ الولاء والبراء يقتضي تكفير الحكام المسلمين والحكم بردّتهم لموالاتهم اليهود والنصارى"، ويرون أنّ إعزاز الإسلام والدفاع عنه يبدأ من هدم الدولة الوطنية المعاصرة.
فجماعات التمايز بالإسلام على المسلمين مثل كل قوى اليمين المتشدّد حول العالم دينهم هو كراهية الآخر.. وهي بذلك تريد إطفاء النار بالنار واستبدال حرب بحرب، تدعو العقول أن تكون أسيرة للتعصب وهذا ما لا يُمكن أن يكون دعوة الله إلى العالمين. 

* لماذا هذا المصطلح جماعات امتلاك الحقيقة أو "جماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين" الذي رأيته تردد فى الكتاب؟

- لأنها ترى الآراء التي تُقدّمها دينا وهي فى حقيقتها محاولة لفهم الدين، فهي تتعامل مع فهمها للإسلام ليس بوصفه اجتهادا بشريا ونظرة إنسانية نسبية قابلة للصواب والخطأ، بل على النقيض تتصور أنه مراد النصّ الذي لا يمكن لهم أن يحيدوا عنه. فهي تُقدم نفسها على أنها صوت الشريعة والواقع أنه صوت من تنحاز إليه من مجتهدين فى فهم مراد الله، ويُطلقون كلمات ضخمة من قبيل "هذا رأي أئمة الإسلام"، لتُرهب العقل حتى يسكت عن مناقشة اجتهاداتهم وإظهار ما فيها من انحراف عن مراد الله.

* كتاب "الحب والحقد المقدس" فى مساره التأريخي كشف بعض المغالطات الشائعة حول بعض الشخصيات التاريخية فى جماعات الجهاد المصرية فما أبرز تلك المغالطات؟

- من المغالطات التي تداولتها بعض الكتابات أنّ عصام القمري انضم إلى جماعات الجهاد بعد اتفاقية كامب ديفىد، والواقع أنه انضم فى أواخر ستينيات القرن العشرين إلى القوات المسلحة بمنطلقات جهادية، فكان مجموع عصام القمري فى امتحان الثانوية العامة ُيؤهله لدخول كلية الطب أو الهندسة لكن قناعته كانت فكرة الإرهاب. 

كذلك من المغالطات التي تداولتها بعض الكتابات أنّ أيمن الظواهري وسيد إمام لم يعرفا العمل المسلح إلا بعد القبض عليهما فى قضية الجهاد الكبرى وتعرضهما للتعذيب، والواقع الذي كشف عنه أيمن أنّه انضم إلى خلية من خلايا الجهاد فى نهاية مرحلة التعليم الثانوي أي قبل اغتيال السادات بحوالي ١٤ سنة. 

من المغالطات أيضا تجاهل دور الإخوان المسلمين عبر مكتب خدمات الذي أشرف عليه الأردني عبدالله عزّام والدور الذي لعبه أول المجاهدين العرب فى أفغانستان وهو ليس عبدالله عزام كما هو شائع لكنه بشهادة أيمن الظواهري كمال السنانيري نائب مرشد الإخوان فلم تمض شهور على دخول السوفييت إلى أفغانستان فى ٢٥ ديسمبر ١٩٧٩ حتى وصل إليها الدكتور محمد كمال السنانيري بتكليف من جماعته لدراسة الواقع والتواصل مع زعماء القبائل الأفغانية، فهو أول الأفغان العرب، وهو من كلّف الشيخ عبد الله عزام بالسفر إلى باكستان حين التقى به فى المملكة العربية السعودية. ومن الإخوان المسلمين خرج أسامة بن لادن مؤسس القاعدة وأبو مصعب السوري أحد أهم مشرعيها.

* هل هادن النظام المصري جماعات التميز باسم الإسلام؟ 

- نعم اغتيال السادات كان حصاد مهادنة فكرية لجماعات التمايز بالإسلام الصحيح عن المسلمين التي لا تُجيد العمل فى النور بل تتحرك فى الظلام، تضفى مشروعية دينية على تحايلها على القانون وعدم خضوع أنشطتها له، فهي تخوض معركتها ضد القانون المتعدي على الشريعة، هذا الإصرار من الجماعات على القفز على القانون والانتصار عليه يدفع الأنظمة إلى قوانين استثنائية يجنى مَّرها المجتمُع، من حرياته وعدله، وهذا ما جعل نظام مبارك يلجأ إلى القوانين الاستثنائية متمثلة فى قانون الطوارئ منذ اللحظة الأولى لحكمه. 

* لماذا فكرة الحوار بين الشخصيتين كل يتكلم بضمير المتكلم؟ ولاحظنا تداخل صوتك فى بعض الأحيان مع صوت السفير عزّام؟

فكرة الحوار واختيار قالب سردي تتداخل فىه سيرتان ذاتيتان للجد والحفيد وليس قالب بحث علمي بهوامش وتوثيقه لما تحمله اللغة الحوارية ومسرحة الأحداث من تبسيط للأفكار وتقريب الأحداث للقارئ، وتقديم صورة كلية لمسار فكر الجماعات بما يؤكد أنها تختلف فى الوسائل لكن تتفق فى الغايات، والسبب الثاني أنّ بعض المصادر التي اعتمدت عليها فى التعرّف على سيرة وأفكار أيمن الظواهري ليست كُتبا مطبوعة متداولة يصلح الاعتماد عليه فى التوثيق البحثي.

أما بالنسبة لتداخل صوتي مع صوت السفير عزّام فهذا فعلا واضح فى الجانب الفكري لا التاريخي، لأنّ أفكار "جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين" كانت تحتاج إلى تحليل بنية خطابها ونقد مضمونه وهذا لم يكن لنتاج السفير عبد الوهاب عزام أن يُقوم به فتدخلت على لسانه بنقاش القضايا المطروحة على ألسنة أبناء الجماعات ومنها هل حراسة الدين مصدره السلطة أم الضمير، والتشريع بين الله والأمة، ومفاهيم الشورى والديمقراطية والتكليف والمواطنة، ومفاهيم الجهاد والردّ على أدلتهم الشرعية وشواهدهم من التاريخ وطريقة فهمهم للغة.

* ما الذي قصدته بالعصر التاريخي الرابع الذي تسعى له الجماعات؟

- تنطلق الجماعات من أنّ التاريخ أربع عصور، العصر الرابع منها خلافة راشدة استنادا إلى ما جاء فى مسند الإمام أحمد من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تكونُ النبوةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعَها ثم تكونُ خلافةٌ على منهاجِ النبوةِ فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعَها ثم تكونُ مُلكًا عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعَها ثم تكونُ خلافةٌ على منهاجِ نبوةٍ ثم سكت." 

فجميع فصائل الحركة الأصولية ترى أن عصر النبوة أتى ببعثة الرسول الكريم، وأتت بعدها الخلافة الراشدة التي بدأت بحكم أبي بكر الصديق وانتهت يوم تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفىان، ثم أتي مُلك عضوض ظالم من معاوية حتى بداية العصر العباسي الثاني، ثم ملك جبري حتى يومنا هذا.. ولما تأت بعدُ الخلافة على منهاج النبوة التي بشّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم- فى آخر الزمان، وهي ما تسعى الحركة الإسلامية إليه من خلال السيطرة على بقعة من الأرض فى قلب العالم الإسلامي تخوض منها معركتها؛ لإعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. 

تلك النظرة العجيبة للتاريخ واستشراف المستقبل لم تعد محصورة فى فكر الفصائل الأصولية بل متداول فى ثقافة المسلمين العامة، ارتبطت بكتب التفسير التراثية التي حاول فيها المفسرون تفسير الآيات بالمرويات، فقسّموا حياة المسلمين إلى يوم القيامة فى ماضيها وحاضرها ومستقبلها بتلك المرويات، وجعلوا تاريخ المسلمين الممتد فى أربع كتل زمنية ضخمة: نبوة ثم خلافة راشدة ثم ملك عضوض جبري ثم خلافة على منهاج النبوة لمَّا تأتِ بعدُ.. 

وبناءً على هذا الفهم يعيش المسلمون اليوم المرحلة الثالثة من التاريخ فى ظل أنظمة جبرية مستبدة، ينتظرون تحقق وعد الله بخلافة راشدة فى آخر الزمان، وهذا الفهم الحرفى الضيق الذي يرى الأزمنة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا أربعة عصور تاريخية لا يستقيم عقلا، فتنوع صور الحكم بين راشدٍ يتوخى قيم ومبادئ الإسلام، وغير راشد يُفسد ويظلم تكررت، وستتكرر آلاف المرات فى تاريخ المسلمين، فكل تجربة فى الحكم طالت أو قصرت، امتد نطاق نفوذها أو ضاق يُمكن وصفها بالراشدة أو غير الراشدة بل يمكن تقسيم تجربة ملك من ملوك المسلمين إلى فترات وإصدار أحكام مختلفة تبعا لتنوعها. 

ومن جانب آخر إذا سلّمنا بهذا الفهم الحرفى لظاهر الحديث بحجة أنه هكذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم- فسنجد أنفسنا أمام رواية أخرى للبُخاري تُقسّم الزمن تقسيما مختلفا: نبوة ثم خلافة ثم ملك ثم فساد إلى يوم القيامة؛ فكما أخرج البخاري فى صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ هذا الأمرَ بدأ رحمةً ونُبوَّةً ثم يكون رحمةً وخلافةً ثم كائنٌ ملكًا عضوضًا ثم كائنٌ عتُوًّا وجبريةً وفسادًا فى الأرض يستحِلُّون الحريرَ والفروجَ والخمورَ ويرزقون على ذلك ويُنصَرون حتى يلقَوا اللهَ عزَّ وجل." فأي المرويات تقسيمها أولى إذا كنا سنتعامل مع التقسيم بدلالته الحرفية، لاسيما أن الرواية الثانية التي أسقطت الخلافة الراشدة الثانية، وجعلت الفساد إلى يوم القيامة أقوى سندا من الرواية التي تعتمد عليها فصائل الحركة الأصولية!

كما أن مثل هذا الفهم الحرفي سيؤدي إلى أفكار وتفسيرات خاطئة مثل التي وقع فىها التابعي يزيد بن النعمان بن بشير عندما اعتقد فى زمانه أن خلافة عمر بن عبد العزيز هي الخلافة الراشدة المنتظرة فى آخر الزمان، إضافة إلى ذلك فإن التمسك بهذه المروية سيجعل ما بعد خلافة الراشدين ملكا مستبدا، وليست خلافة إسلامية ناقصة كما وصفها ابن خلدون، مما دفع بعض المفكرين الإسلاميين مثل ضياء الدين الريس إلى تضعيف الحديث لضمان سلامة رؤية ابن خلدون التاريخية. 

فالأولى حمل المرويات التي جاءت فى الخلافة الراشدة على ما جاء فى الخطاب القرآني من حديث عن استخلاف إنساني عام، وليس العكس من تفسير الخطاب القرآني بالمرويات وتقييده بها، كما هو شائع فى الخطاب الإسلامي، فيتعين تأويل الأخبار وعدم التمسك بظاهر لفظها، حتى لا يحدث تعارض بين المرويات، فأحاديث التبشير والتحذير مثل آيات الاستحلاف لا تحمل تحديدا ولا تخصيصا، ولا تحكى وقائع تاريخية بعينها، فمحاولات المفسرين تفسير آيات الاستحلاف بالمرويات دفعتهم إلى إسقاط تلك المرويات على وقائع تاريخية بعينها، وهذه ظنون وآراء احتمالية من المفسّر، فكيف نجعلها يقينا مقطوعًا به! 

فالخلافة التي تحدّث عنها القرآن لا ترتبط برجل لقبه الخليفة أو الملك أو الرئيس بل هي فِعْل إنساني عام تعبد وعمران وإصلاح يشترك فىه الرعيّة والراعي معا، أو بلغتنا المعاصرة الشعب والنظام الحاكم معا، فالمرويات تحكى حالة متجددة متغايرة فى المسار الإنساني بين استخلاف يصلح فيحقق مبادئ الإسلام، وملْك يركن إلى الأطماع فيفسد ويهدر قيم العدل والحرية والمساواة وغيرها من مبادئ الإسلام، فكل ممارسة إنسانية تحترم مبادئ الإسلام وثوابت تُعد جزءًا من البُشرى النبوية، فالمعنى مرهون بالإنسان الذي يقيم مبادئ الإسلام أو نقيضها فى الأرض.