رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بدائع السلك في طبائع الملك»..صفحات قديمة في ثوب جديد

جريدة الدستور

الحقيقة ان بظهور كتاب العلامة الأندلسي ابن الأزرق (832-896هـ) "بدائع السلك في طبائع الملك" ظهر نوعا جديدا من الإجتهاد السياسي في مجال السياسية الشرعية،حيث كان قد توقف المسلمون عند كتب السياسية الشرعية القديمة مثل "الأحكام السلطانية والولايات الدينية"، للقاضي الماوردي، ثم "الأحكام السلطانية"، للقاضي أبي يعلى الفراء، ثم كتاب "غياث الأمم في التياث الظلم"، للإمام الحرمين الجويني. 

ثم كتاب "السياسة الشرعية"، لأبي العباس ابن تيمة، ثم كتاب الطرق الحكمية، لابن القييم ، إلا ان كتاب العلامة ابن الأزرق خرج بطابع فريد عن هذه التصنيفات الأخرى فلخص ابن الأزرق في بعض فصول كتابه مقدمة ابن خلدون عارضًا لنظرياته ونظمها تنظيمًا منهجيًا، ولكنه تجاوز ابن خلدون تجاوزًا كبيرًا مم جعله رائدا في مجالة.

كانت خطة "ابن الأزرق" أن يورد النص الخلدوني، إما كما هو، وإما يلخصه، وإما أن يفسره، ثم يعلق عليه بأقوال آخرين، مؤيدين ومعارضين، وبآرائه هو مؤيدًا أو داحضًا.

وترجع قدرة ابن الأزرق في هذا الكتاب لكونه قريب من الحياة السياسية في عصره، بل ومشاركا فيها، بالإضافة إلى ما تقلّده من (وظائف شرعية)، تولى أيضا (منصب السفارة) إلى بعض ملوك المشرق والمغرب، كما قد يكون تولى (مرتبة الكتابة) لدى بني نصر بغرناطة.

أسهم أبن الأزرق في الحياة العامة، فكان عالمًا بارعًا، وفقيهًا جليلًا، ولي قضاء غربي مالقة في أيام سعد بن علي صاحب الأندلس، ثم قضاء مالقة نفسها فى زمن محمد بن سعد، ثم قضاء وادي آش عن أخيه علي بن سعد، ثم قضاء الجماعة بغرناطة ومن ثم إنتقل إلى تلمسان بعد استيلاء الإفرنج على غرناطة، وبعدها هاجر إلى المشرق ليستنفر ملوك العرب لنجدة صاحب غرناطة.

لذلك نجده مارس العمل السياسي والحركي في عصره فنتج عنه جملة من الافكار استثمرها في كتابه وسفره العظيم " بدائع السلك " الذي نحن بصدده الان،وعلى كثرة تولي ابن الأزرق لوظائف القضاء والفتوى، فإنه كان أيضًا أديبًا وعالمًا بالعربية وشاعرًا ويدل ما خلفه من نتاج على شخصية فذة تركت أثرها في غيره من رجالات عصره.

هذا وقد خلف الأزرق عددًا من المؤلفات المهمة في بابها، وأشهرها "بدائع السلك في طبائع الملك "والذي نحن بصدده، وفيه يعالج موضوعات السياسة العقلية والشرعية، والعمران، والأخلاق، وقد أدار المؤلف الكلام على هذه الموضوعات في خطبة ومقدمتين وأربعة فصول او كتب وخاتمة بمسك الختام، وقد اتبع منهجًا دقيقًا في توزيع الموضوعات ومعالجتها ضمن عناوين أصلية وفرعية.


محتوي الكتاب

ينقسم (بدائع السلك في طبائع الملك) إلى أربعة كتب ( أي فصول ) الفصل الأول بـ(الخلافة والملك وسائر أنواع الرياسات)، يتحدث فيه عن (حقيقة) الأنظمة السياسية في محور أول وعن (سبب وجود الملك وشرطه) في محور ثاني.
ويختصّ الكتاب(الفصل ) الثاني بـ (ذكر أركان الملك وقواعد مبناه)، يتعرض فيه المؤلف في محور أول لـ (الأفعال التي تقام بها صورة الملك) من نصب الوزير وإعداد الجند وحفظ المال وإقامة العدل ورعاية السياسة، وتقديم الولاة، وتنظيم المجلس السلطاني إلى غير ذلك، وفي محور ثاني يتحدث عن (الصفات التي تصدر بها تلك الأفعال) وهي عشرون صفة، منها العقل والعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفو والوفاء بالعهد وكتم السر إلى غير ذلك.

أما الكتاب (الفصل) الثالث، فيخصصه ابن الأزرق لـ (المطلوب من السلطان تشييدا لأركان الملك وتأسيسا لقواعده)، ويشمل بدوره محورين، أحدهما يتعلق بـ(جوامع السياسة) وهي سياسة السلطان، وسياسة الوزير، وسياسة سائر الخواص، والثاني يستعرض (واجبات) السلطان وتشمل حفظ الدين وتنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود إلى غير ذلك.

ويخصص المؤلف الكتاب (الفصل )الرابع والأخير لـ (عوائق الملك وعوارضه)، وفيه أيضا بابان، أحدهما في (العوائق) ويعرف فيه المؤلف بمعناها ويحلل كيفية طروق الخلل إلى الدولة، والثاني يخص (العوارض) يعرف فيه بمعناها، كما يتحدث فيه عن (المنازل الحضرية)، و(المعاش) و(العلوم).

إن قراءة كتاب (بدائع السلك في طبائع الملك) لابن الأزرق قد لا تغني عن قراءة ما سبق كتابته من كتب السياسية الشرعية مثل كتاب (الأحكام السلطانية ) علي سبيل المثال، إذ كان القصد من تأليفه، كما جاء في مقدمة المؤلف لكتابه، تلخيص ما كتب الناس في الملك والإمارة والسياسة، إلا انه ذا طابع فريد من نوعه يجعلنا نتعمل مع كتب السياسة الشرعية بفقه جديد يطلق عليه الباحثون في هذا المجال فقه الواقع والمعاش والممكن. 

وهذا يدفعنا إلي التطرق إلي مَّا طرحه بعض الباحثين في تساؤلات حول العلاقة الممكنة بين المفكر السلطاني "ابن الأزرق"، وعالم العمران "ابن خلدون"، خاصّة ونحن نعلم الانتقادات اللاذعة التي وجهها ابن خلدون لهذا النوع من الكتابة السياسية بمناسبة حديثه عن كتاب (سراج الملوك) لأبي بكر الطرطوشي وهو ما نريد ان نصل إليه او نجمع ما بين ما طرحة العلامة ابن خلدون في المقدمة وديوان العبر وبدائع السلك في طبائع الملك لنجمع بين الدراسة الإجتماعية والفكر السياسي ونربطهما بواقع العمران البشري الذي يخص كل مدينة وقرية وبلدة في عالمنا الإسلامي المعاصر. 


طبائع الملك وأركانه 

من أهم ما طرحه العلامة ابن الازرق قضية طبائع الملك واركانها واجملها الرجل في (عشرون ركنًا) الركن الأول (نصب الوزير)، الركن الثاني (إقامة الشريعة )، الركن الثالث (إعداد الجند)، الركن الرابع (حفظ المال )، الركن الخامس (تكثير العمارة)، الركن السادس (إقامة العدل )، الركن السابع (تولية الخطط الدينية )، الركن الثامن (ترتيب المراتب السلطانية )، الركن التاسع (رعاية السياسة )، الركن العاشر (مشورة ذوي الرأي والتجربة )، الركن الحادي عشر (بذل النصيحة)، الركن الثاني عشر (أحكام التدبير)، الركن الثالث عشر (تقديم الولاة والعمال) الركن الرابع عشر (اتخاذ البطانة وأهل البساط )، الركن الخامس عشر (تنظيم المجلس وعوائده )، الركن السادس عشر (تقرير الظهور والاحتجاب )، الركن السابع عشر (رعاية الخاصة والبطانة ) الركن التاسع عشر (مكافأة ذوي السوابق)، الركن العشرين (تخليد مفاخر الملك ومآثره ). 



" السجين طليق الله " وكيف يدير الملك الرعية 

وهي قص السجين والتي سماها ابن الأزرق "طليق الله " حيث ذكر أن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب والي بغداد، انه رأى في منامه كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أطلق القاتل، فارتاع لذلك روعًا عظيمًا، ونظر في الكتب الواردة لأصحاب السجون فلم يجد فيها ذكر قاتل، فأمر بإحضار السنديوعياش (أمير السجن او مدير مصلحة السجون ) فسألهما: هل رفع إليهما أحد ادعي عليه بالقتل؟ فقال له عياش: نعم، وقد كتبنا بخبره، فأعاد النظر، فوجد الكتاب في أضعاف القراطيس.

وإذا الرجل قد شهد عليه بالقتل، فأقر به، فأمر إسحاق بإحضاره، فلما دخل عليه، ورأى ما به من جرتياع (هلع) قال له: إن صدقتني أطلقتك، فأبتدأ يحدثه بخبره، وذكر أنه كان هووعدة من أصحابه يرتكبون كل عظيمة،ويستحلون كل محرم، وأنه كان اجتماعهم في منزل بمدينة أبي جعفر المنصور، يعتكفون فيه على كل بلية.

فلما كان في بعض الأيام، جاءتهم عجوز كانت تختلف إليهم للفساد، ومعها جارية بارعة الجمال، فلما توسطت الجارية الدار صرخت صرخة، فبادرت إليها من بين أصحابي، فأدخلتها بيتًا، وسكنت من روعتها وسألتها عن قضيتها، فقالت له: فإن هذه العجوز خدعتني، وأعلمتني أن في جيرانها حق لم يكن مثله، فشوقتني إلى النظر لما فيه، فخرجت معها واثقة بقولها فهجمت بي عليكم وجدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمي فاطمة وأبي الحسين بن علي فحافظوهم فيَّ، قال الرجل: فضمنت لها أن أخلصها، وخرجت إلى أصحابي، فعرفتهم بذلك،فكأني أغريتهم بها. 

وقالوا: لما قضيت حاجتك منها، أردت صرفها عنها، وبادروا إليها، فقمت دونها أمنع منها، فتفاقم الأمر بيننا، إلى أن نالتني الجراح، وعمدت إلى أشدهم كان في أمرها، وأكلبهم عليها تهكما، فقتلته، ولم أزل أمنع منها إلى أن تخلصت منهم سالمة آمنة، مما خافته على نفسها وأخرجتها من الدار، فسمعتها تقول: سترك الله، كما سترتني، وكان لك، كما كنت لي، وسمع الجيران الصيحة، فدخلوا إلينا، والسكين في يدي، والرجل متشحط بدمه (غارق في دمه )، فرفعت على هذه الحالة.

فقال إسحاق: قد عرفت لك ما كان من حفظك للمرأة، ووهبتك لله ورسوله، قال: فوا حق من وهبتني له، لا عاودت معصية، ولا دخلت في ريبة حتى ألقى الله.

فأخبره إسحاق بالرؤيا التي رآها، وأن الله لم يضيع له ذلك، وعرض عليه برًا واسعًا فأبى قبول شيء من ذلك، تعريف: أعجب من هذا الاتفاق الغريب في إطلاق المسجون من شدةالحرص على هلاكه ما حكاه الحميدي أن الوزير أبا جعفر أحمد بن سعيد بن حزم، كان جالسًا بين يدي مخدومه المنصور في بعض مجالس العامة، فرفعة إليه رقعة استعطاف لام رجل مسجون، كان المنصور إعتقله، حنقًا عليه لجرم استعظمه منه، فلما قرأها اشتد غضبه وقال: ذكرتني به والله، وأخذ القلم، وأراد أن يكتب يصلب، فكتب: يطلق.

ورمى الورقة إلى وزيره المذكور، فأخذ الوزير القلم، وتناول ورقة، وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرطة، فقال له المنصور: وما هذا الذي تكتب؟ قال بإطلاق فلان فحره وقال: من أمر بهذا، فناوله التوقيع، فلما رآه قال: وهمت.

والله ليصلبن ثم خط على التوقيع، وأراد أن يكتب: يصلب وكتب: يطلق، وأخذ الوزير الورقة، وأراد أن يكتب إلى الوالي بالإطلاق، فنظر إليه المنصور وغضب أشد من الأول، وقال: من أمر بهذا، فناوله التوقيع فرأى خطه فخط عليه، وأراد أن يكتب يصلب، فكتب يطلق، وأخذ الوزير التوقيع، وشرع في الكتابة إلى الوالي، فرآه المنصور فأنكر أكثر من المرتين الأوليين، فأراه خطه بالإطلاق، فلما رآه عجب من ذلك وقال: نعم. يطلق على رغمي، فمن أراد الله سبحانه إطلاقه ولا أقدر أنا على منعه. 

قال ابن حيان: فسمي طليق الله، واشتهر بذلك.

وأخيرا إن أشهر ما ألف في تدبير الملك، هو كتاب العلامة ابن الأزرق "بدائع السلك في طبائع الملك " قاضي غرناطة ووزيرها وسفيرها في أيامها الأخيرة، تلك الأيام التي انفرط عقدها، وقد رجع في كثير من فصوله إلى كتاب أرسطو (السياسة في تدبير الرياسة ) وأشار في مقدمته أنه يناسب أن يكون أسم كتابه (تحبير السياسة في تدبير الرياسة )، الكتاب هام في مجمله في الأخلاق وفنون الرياسة والكياسة مع بعض الرقائق والقصص المفيدة ذات المغذي التاريخي لمن يريد ان يتعلم فقه المراجعة وانه فقه الريادة وليس فقه الردائة كما يروج البعض الآن.