رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بذور الحاكمية والتكفير.. رسالة المؤتمر الخامس لحسن البنا

جريدة الدستور

يشكل كتاب "مجموع الرسائل" لحسن البنا بجانب كتابه الثاني "مذكرات الدعوة والداعية" الدستور الرسمي لجماعة الإخوان، الذي وضع المنهجين الفكري والحركي اللذين تسير عليهما الجماعة والجماعات المتفرعة عنها إلى اليوم، إضافة إلى تشكيل الجانب العقدي الذي تنطلق من خلالها كل أنشطتهم على الأرض.

أما "رسالة المؤتمر الخامس"، فهي واحدة من أهم الرسائل في مجموع الرسائل، نظرا لأنها كشفت الستار عن جوانب كثيرة من شخصية الجماعة، ووضعت النقاط على الحروف لكلمات لم تكن منقوطة، حتى وقت الإعلان عن الرسالة، وما احتوته من مضامين، صارت مرتكزا لانطلاقة الجماعة السياسية والأيديولوجية فيما بعد، كما كشفت أيضا نظرة الجماعة للدولة وكيفية التعامل معها، ومع غير المنتمين للإخوان.
وتتميز الرسالة بأنها تعتبر إعلانا رسميا لانطلاق الجماعة بشكل مباشر، شرح فيها حسن البنا موقف الجماعة من الحكومات، والأحزاب السياسية، والهيئات الإسلامية، وأثبت فيها أن هناك أمورا غامضة سرية لم تكن معلنة قبلها، الأمر الذي يوضح أن العمل السري تأسس مع الجماعة منذ نشأتها وليس في مرحلة تالية كما يتوهم الكثير من الباحثين.

كما تحتوي الرسالة أيضا على ما يمكن أن تعتبره (سكربت) لإحدى حلقات البرامج الفضائية التحريضية على قنوات الإخوان والتي يلح فيها مقدمو البرامج على أن قلوبهم على الوطن وأن همهم الأول إعادة الأمة إلى الإسلام الذي ضاع، ومحاربة الفساد، وتحويل البلاد إلى جنة الخلد إذا أتيحت لهم الفرصة مرة أخرى.

الإخوان.. فرقة إنقاذ

يقول حسن البنا مخاطبا شباب الإخوان:
"بعد عامين من مؤتمركم الماضي بدار آل لطف الله (في الثالث عشر من ذي الحجة سنة 1357 هجرية ) دار فيهما الفلك دورته، ورأى العالم فيها مختلف الأحداث والظروف، وانفجر أخيرًا (مخزن البارود)، ودوى على الأرض من جديد نفير الحرب بعد أن زعم أهلوها أنهم قد أقروا فيها السلام، تجتمعون الآن ـ أيها الإخوان ـ لتراجعوا صفحة أعمالكم، ولتبينوا مراحل منهاجكم، ولتتحدثوا إلى أنفسكم وإلى الناس عن دعوتكم من جديد، لعل في ذلك تبصرة وذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
أيها الإخوان المجاهدون الذين اجتمعت الليلة من أقصى مصر المباركة إلى أقصاها ..
أحب أن تتبينوا جيداً من أنتم في أهل هذا العصر؟، وما دعوتكم بين الدعوات، وأية جماعة جماعتكم؟ ولأي معني جمع الله بينكم ووحد قلوبكم ووجهتكم، وأظهر فكرتكم في هذا الوقت العصيب الذي تتلهف فيه الدنيا إلى دعوة السلام والإنقاذ".

يلح حسن البنا في هذه الفقرة على فكرة أستاذية العالم، وأن الجماعة ما جاءت إلا رحمة للعالمين، وإنقاذ الدنيا بعد أن انفجر "برميل البارود" فيها، وباتت الحاجة ملحة لتكوين فرقة الإنقاذ، وأنه قد آن الأوان لظهور هذا المخلص والإعلان عنه، وأن هذا المنقذ ليس إلا دعوة الإخوان، باعتبار أنها ممثل الإسلام الذي جاء ليخرج العباد والبلاد من الظلمات إلى النور، وهو ما أكده البنا في رسالة أخرى من رسائله التي عرّف خلالها الإخوان بأنها جماعة المسلمين في القرن الرابع عشر!!.

ويؤكد البنا في البداية فكرة استحواذ الجماعة على الإسلام، ونسبته إليها وحدها دون غيرها، فيقول:

" فاذكروا جيداً أيها الاخوة.. أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به بين الحق والباطل في وقت التبس عليها فيه الحق بالباطل، وأنكم دعاة الإسلام، وحملة القرآن، وصلة الأرض بالسماء، وورثه محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلفاء صحابته من بعده، فضلت دعوتكم الدعوات، وسمت غايتكم على الغايات، واستندتم إلى ركن شديد، واستمسكتم بعروة وثقى لا انفصام لها، وأخذتم بنور مبين وقد التبست على الناس المسالك وضلوا سواء السبيل، والله غالب على أمره".

كم يزيد أشفاقي على الشباب الذين تعرضوا لهذه الكلمات الحماسية التي تحلق بهم في السماء وتجعلهم يشعرون أنهم يقفون على أعتاب الجنة بانتمائهم للجماعة.

فبهذه الفقرة فإن البنا يعتبر أن جميع الناس في ضلال مبين إلا من دخل منهم تحت عباءة الجماعة، ومنّ الله عليه بنعمة الانتماء لها، فصار من المصطفين الأخيار الذين بهم تنصلح الدنيا، ويعلل أساب الخيرية في أعضاء الإخوان بأنهم تمثل فيهم الدين الإسلامي وحدهم دون غيرهم فيقول:

"عرفتموه على وجهه- أي الإسلام- : عقيدة وعبادة، ووطن وجنس، وخلق ومادة، وسماحة وقوة، وثقافة وقانون، واعتقدتموه على حقيقته : دين ودولة، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين".

تأسيس الحاكمية

ثم يأتي البنا ليضع اللبنة الأولى في مسألة "الحاكمية" التي ترجمها سيد قطب وصارت الأساس الذي انطلقت من خلاله كل الجماعات المتطرفة فيما بعد، يقول البنا:

"لقد جاء الإسلام نظامًا وإمامًا، دينًا ودولة، تشريعاً وتنفيذاً، فبقي النظام وزال الإمام، واستمر الدين وضاعت الدولة، وازدهر التشريع وذوي التنفيذ.
أليس هذا هو الواقع أيها الإخوان ؟! وإلا فأين الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض؟ والله تبارك وتعالى يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم : - (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49).
والإخوان المسلمون يعلمون ليتأيد النظام بالحكام، ولتحيا من جديد دولة الإسلام، ولتشمل بالنفاذ هذه الأحكام، ولتقوم في الناس حكومة مسلمة، تؤيدها أمة مسلمة، تنظم حياتها شريعة مسلمة أمر الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - في كتابه حيث قال : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثية:18-19)" .

وفي هذه الفقرة اكتشاف جديد وهو أن فكرة "الحاكمية" التي تبناها أبو الأعلى المودودي ونشرها سيد قطب لم تكن من ابتكار أحدهما فقد استلهماها من حسن البنا الذي يحاول الكثيرون تبرئة ساحته من وضع بذور الإرهاب.
وقد صارت هذه الفكرة فيما بعد أهم المرتكزات التي يستند إليها كل الجماعات الإرهابية في تكفير المجتمعات المسلمة واستحلال دمائها وأعراضها وأموالها.

استغلال ضيق الأحوال المعيشية لنشر أفكاره

وينتقل البنا مباشرة بعد ذلك إلى المنطقة الأكثر إغراء لتجنيد الشباب، بعد إيهامهم أن جماعتهم هي الممثل الرسمي للإسلام، وأن غيرها مجرد صور مزورة، وأن الدولة لا تحكم بما أنزل الله، فتثور فيهم الهمم وتسري في أجسادهم الحماسة بأن ذلك لن يكون إلا على أيديهم وحدهم.
وتتمثل تلك المنطقة الثرية في الحديث عن محاربة الفساد، ويأتي ببعض الوقائع التي تصلح للتدليل على أنه بجانب ضياع الدين، فإن الدنيا أيضا قد ضاعت وغرقت البلاد في ألوان شتى من الفساد ولا أمل في إعادة الدين والدنيا إلا عن طريق فتية آمنوا بجماعتهم، وأعلنوا الولاء لدعوتهم، دعوة الإخوان المسلمين.

"سكربت" قنوات الإخوان

ولعل الفقرة التالية من الرسالة تذكرنا باللهجة نفسها التي نسمعها يوميا من أبواق الإخوان في قنواتهم ومنتدياتهم الإعلامية وكأنهم يعيدون قراءتها نصا من الرسالة، يقول حسن البنا:
" وهل ينتشر الفقر والجهل والمرض والضعف في بلد كما ينتشر في مصر الغنية مهد الحضارة وزعيمة أقطار الشرق غير مدافعة؟!
إليكم أيها الإخوان بعض الأرقام التي تنطق بما يهددنا من أخطار اجتماعية ماحقة ساحقة إن لم يتداركنا فيها الله برحمته فسيكون لها أفدح النتائج وأعظم الآثار..."

وبعد أن يذكر بعض الأرقام عن الفلاحين والأراضي الزراعي يقول:
" إن أربعة ملايين من المصريين-عدد الفلاحين وقتها- لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشا في الشهر بشق النفس، فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل الأسر المصرية عامة، كان متوسط ما يخص الفرد في العام جنيهين، وهو أقل بكثير مما يعيش به الحمار!!".

ثم ينتقل من الفلاحين إلى عمال المصانع وبعد ذكر عدد من الأرقام يقول:
"فكيف يشعر إنسان هذه حاله بكرامته الإنسانية أو يعرف معنى العاطفة القومية والوطنية وهو بلد لا يستطيع أن يجد فيه القوت، ولقد استعاذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الفقر، وقديما قيل : يكاد الفقر أن يكون كفرا، فضلا عن أن المشتغلين من العمال مهددون باستغلال أصحاب رأس المال وضعف الأجور والإرهاق في العمل، ولم تصدر الحكومات بعد التشريع الكافي لحماية هؤلاء البائسين، وقد ضاعفت حالة الحرب القائمة هذا العدد من المتعطلين وزادت العاملين منهم بؤسا على بؤسهم".

ومازالت هذه اللهجة نفسها هي التي يستخدمها الإخوان في اجتذاب من لديهم ميول ثورية، والناقمين على الأحوال المعيشية للانضمام إليهم، طلبا في التخلص من الضغوط التي يعانون منها، وكم رأينا كيف وقع الكثيرون في براثن الجماعة بهذه الخدعة الثورية.

فالجماعة بهذين الجانبين الديني والدنيوي تسير على الخطى التي رسمها البنا حول أهمية الاستحواذ على أصحاب العواطف الدينية، خاصة البسطاء الذين لم يتقلوا تعليما دينيا يستطيعون به اكتشاف خداع الجماعة باسم الدين، وما اكثرهم في المجتمعات المسلمة.
كما تكشف أيضا أساليب الجماعة في استغلال الأزمات الاقتصادية، والاجتماعية في الاستحواذ على من لديهم ميول ثورية والناقمين على ضيق الحال ليزيد عدد أتباعها، وهي اللهجة نفسها التي لم تتخلص منها الجماعة إلى اليوم، فإذا أعدت قراءة الفقرة مرة أخرى تشعر كأنك تقرأ (سكربت) إحدى حلقات قنوات الجماعة، رغم فشل الإخوان الذريع في القضاء على أي شيء مما انتقدته طيلة أكثر من 80 عاما، حينما أتيحت لها الفرصة ووصلت إلى الحكم.