رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجهاد في سبيل الله.. تزوير «الفريضة» في سراديب الجماعات الإرهابية

جريدة الدستور

تنطلق المناهج التي يعتمد عليها كل الجماعات والتنظيمات الإرهابية، من قاعدة تكفير الدولة، ونقد أصول الحكم فيها، باعتبار أن الجماعة قد حلت محلها، وبالتالي فهي تسعى لإثبات أن جميع الأحكام الشرعية- ومنها الجهاد- التي تتحدث عن الدولة، قد اختص الله ورسوله بها الجماعة دون غيرها، وبالتالي فهي تنظر إلى الدولة الشرعية من ثلاثة وجوه، وهي:

الوجه الأول: اعتبار أن الدولة فئة باغية، يجب قتالها حتى تفيء إلى أمر الله.
الوجه الثاني: أنها مرتدة ويجب إنزال أحكام الردة على كل مؤسساتها ومن يتبعها.
الوجه الثالث: أنها دولة كافرة أصلية محاربة للإسلام والمسلمين.

ومن المعروف أن كل مخالفة تقود إلى غيرها، فلما كانت نظرة تلك الجماعات للدولة على هذه الأوجه، فقد استدرجها ذلك إلى الوقوع في مخالفات أخرى حول مفهوم الجهاد، الذي انطلقت تحرف نصوص الشرع حوله، وتنتزعها من سياقها انتزاعا، لتبرير جرائمها تحت زعم الجهاد مثلما سرقت الدولة الشرعية من أصحابها.

وتعلن كل الجماعات، أن الجهاد سبيلها لرفع راية الإسلام كما تريد، وتجتذب بهذا الشعار الصغار والكبار، تقنعهم بأن الحق بين أيديهم وحدهم، وأنهم يمتلكون الأدلة من الكتاب والسنة الكافية لتأييد إجرامهم، رغم أنها مبنية على تأويلات باطلة، وأساس سقيم يجعلها لا تقوى أمام البحث الموضوعي.

الدولة الباغية

يعتبر الجماعات الإرهابية أن الدولة، عبارة عن فئة باغية ينبغي، الوقوف في وجهها وإعلان الجهاد ضدها، وجعلوا ذلك في مقدمة فروض الأعيان، أي على رأس ما فرضه الله على المسلمين، دون سند من دليل شرعي على هذه المقولة التي تخالف الثابت من الشرع، فأهم فروض الأعيان هي تلك التي يدخل بها المسلم الإسلام، وبالطبع فإن من شروط الجهاد، تحقيق كلمة التوحيد أولا وليس العكس، فقد جعلوا الجهاد مقدمة لدخول الإسلام، وليس العكس، وهو ما يمكن أن تراه في صورة الكثير من الشباب الأوروبي الذين يخدعونهم ويضمونهم إليهم كما يحدث في التنظيمات المسلحة المقاتلة في سوريا والعراق مثل "داعش" وغيرها.

وقد صنف عبدالله عزام رائد الجهاد الأفغاني كتابا له يحمل هذا المعنى بعنوان "الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان"، وكتب فيه تحت عنوان "قتال الفئة الباغية":

" يقول الله عزوجل: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
فإذا فرض الله علينا قتال الفئة الباغية المسلمة حفظا لوحدة كلمة المسلمين، وحماية دينهم، وأعراضهم، وأموالهم، فكيف يكون الحكم في قتال الدولة الكافرة الباغية؟، أليس هذا أولى وأجدر؟".

وهنا يؤصل رائد الجهاد الأفغاني ذو الأصول الإخوانية، فكرة استبدال الدولة بالجماعة أو التنظيم، وأن أحكام الدولة قد انسحبت إلى الجماعة في حراسة الدين والدنيا، وبالتالي فقد أصبح من حقها الجهاد ضد الدولة التي تحولت إلى فئة أو جماعة باغية، وأن قتالها أصبح على رأس واجبات إقامة الدين!!.

ويرد المفسرون على ما ذهب إليه عبدالله عزام بأن تفسير الآية السابقة، موجه للجيوش وللحكام وليس للجماعات والتنظيمات وأمرائها.
يقول ابن عاشور-وهو من المفسرين المعاصرين- :" القتال وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشا يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأئمة والخلفاء" (التحرير والتنوير، الحجرات).
وهو ما اتفق ما قول الطبري: " هذا أمر من الله أمر به الولاة كهيئة ما تكون العصبة بين الناس، وأمرهم أن يصلحوا بينهما، فإن أبوا قاتل الفئة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله، فإذا رجعت أصلحوا بينهما، وأخبروهم أن المؤمنين إخوة، فأصلحوا بين أخويكم قال : ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام ". (تفسير الطبري، الحجرات).

إذن فقد أجمع أهل العلم والتفسير في القديم والحديث على أن الجهاد وقتال الفئة الباغية لا يكون إلا عن طريق الجيوش، وليس لآحاد الناس أو الجماعات، كما يفعل هؤلاء.

الجماعات هي الفئة الباغية

وبالبحث والتقصي حول حقيقة الجماعات، واتهامها للدول الإسلامية بأنه فئة باغية ينبغي قتالها وإعلان الجهاد ضدها، كانت الحقيقة الجلية، وهي أن نصوص الشرع كلها، تعتبر الجماعات فئات باغية، يجب على الحكام إعلان الجهاد عليهم؛ حتى يعودوا مرة أخرى إلى الطريق المستقيم، تجنبا لإراقة الدماء، كما نرى اليوم.
وقد وصفهم العلماء ومنهم الإمام الشافعي في كتابه الأم، بأنهم: " قوم لهم شوكة، ومَنَعة يخرجون على الإمام بتأويل سائغ، يريدون خلعه أو مخالفته وشق عصا الطاعة له".

ولا شك أن التأويل السائغ متوافر لدى كل الجماعات التكفيرية والإرهابية وحلفائها بتفسيراتهم المغلوطة لنصوص الشرع، كما أن لهم شوكة ومنعة، عن طريق أتباعهم والدول والكيانات الداعمة لهم من أجل تفريق كلمة المسلمين وإضعافهم، وهؤلاء قد وصفهم الله تعالى بتفريق دينه.

قال الإمام ابن كثير: "حدد الله – تعالى أن الرسول بريء من الذين تفرقوا في الدين، وذكر مآلهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [سورة الأنعام:159]
والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفاً له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وَكَانُوا شِيَعاً أي: فرقاً كأهل الملل والنحل - وهي الأهواء والضلالات - فالله قد بَرَّأ رسوله مما هم فيه". (تفسير ابن كثير (3/377).

الجهاد المسروق

ثم تأتي الخطوة التالية بتوجيه الجهاد ضد الشعوب، تبعا للجهاد ضد الدولة التي تحولت في فهم الجماعة إلى فئة باغية، وتقسم الجماعات الإرهابية الشعوب في ذلك إلى ثلاثة أصناف، وينبغي الإشارة هنا إلى أن تصنيف "المسلمين" أصل من أصول الجماعات المنحرفة، ولها جذور ممتدة عبر التاريخ أعاد إنتاجها حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في كتابه مذكرات الدعوة والداعية في ذلك التقسيم الرباعي الذي ابتدعه لموقف المسلمين من دعوة الجماعة، وقال فيها: " وكل الذي نريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحداً من أربعة، مؤمن أو متردّد أو نفعي أو متحامل"، ومن هذه التقسيمات يظهر موقف الجماعات الإرهابية من المسلمين في العموم، وفي الجهاد بشكل خاص.

يقول سعيد حوى في كتابه "خطوة إلى الأمام على طريق الجهاد":
"كما نحب أن نقول منذ الابتداء لثلاثة أصناف من أبناء المسلمين كلمة صريحة، هذه الأصناف هي:
المسلم الذي يحرص على أن يحتفظ بلقب شرف مزعوم يخلع عليه الكافرون، والمسلم الذي يحرص على الدنيا من خلال الانخراط تحت ألوية الكفر، وكأن الدنيا ليست إلا للكافرين، والمسلم الذي يصدق الخونة والكاذبين عندما يتهمون المسلمين الأمناء الصادقين... وكثيرا ما يحدث نتيجة لذلك أن تجد مسلما يسلم نفسه للعمل تحت رايات الكفر ولا يشعر أن ذلك يتناقض مع الإسلام، وكثيرا ما تجد مرتدا عن الإسلام قد فاء إلى الإسلام، ولكنك عندما تدارسه أو تناقشه أو تسمع أفكاره تجده قد انتقل من كفر كلي إلى كفر جزئي بسبب غياب البديهيات".

وقد أسست هذه الجماعات منهجها على اعتبار أن مليشياتها هي الجيش، وأن الجهاد لا يكون إلا معها، قال شكري مصطفى أمير تنظيم التكفير والهجرة أثناء التحقيق معه في قضية اغتيال الشيخ الذهبي وزير الأوقاف الأسبق:

"إذا اقتضى الأمر دخول اليهود أو غيرهم، فإن الحركة حينئذ ينبغي ألا تبنى على القتال في صفوف الجيش المصري، وإنما الهرب إلى أي مكان آمن. إن خطتنا هي الفرار من العدو الوافد تماما كالفرار من العدو المحلي، وليس مواجهته".

ليس هذا الاعتراف سوى تطبيق عملي لنظرة كل الجماعات المتطرفة إلى الجهاد الشرعي الذي لا يكون إلا تحت راية الجيش والحاكم، وهو ما أجمع عليه أهل العلم قديما وحديثا ولا يوجد من النصوص الشرعية ما يخالفه.

والملاحظ أن جميع أتباع التنظيمات الإرهابية التي تتحدث عن الجهاد غير مؤهلين فقهيا ولا عقديا لمعرفة شروط الجهاد وأركانه، ولا يأخذون منه إلا ما يمليه عليهم كبراؤهم وأئمتهم، الذين يقفون على أبواب جهنم، من استجاب لهم قذفوه فيها، فيتحول ساعتها الجهاد إلى شكل آخر من الإجرام لأن الجهاد بغير علم لا يعني سوى الإرهاب.

رؤية شرعية

والجهاد المسلح أو القتال من الناحية الشرعية نوعان، جهاد الدفع، وجهاد الطلب، أما النوع الأول فهو أكثر ما يتحدث عنه الجماعات والتنظيمات الإرهابية، التي ترى في ملاحقة جرائمها من قبل الدولة نوعا من غزو الكافرين لدولتهم التي تمثل دولة الإسلام من وجهة نظرهم، وهو ما يستلزم إعلان الجهاد والنفير ضدها، رغم أن أهل العلم أجمعوا على شرط وجود الدولة الشرعية لا الجماعة، وإذن الإمام- أي الحاكم- كي يكون الجهاد موافقا للشرع وليس إرهابا كما نرى، وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء والحنفية والمالكية والحنابلة، وأهل الحديث فهم يعتبرون أن الجهاد يحرم بدون إذن الإمام، وذهب الشافعية إلى كراهيته فقط.
يقول ابن قدامة "الحنبلي" في "المغني":
"ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع:
1. إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان.
2. إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
3. إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير"
وقال أيضا: "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك".

إذن فالجهاد المسلح له شروط وضوابط، كلها مرتبط بدولة قائمة بالفعل وجيش وقيادة، ويعتبره العلماء من فروض الكفاية التي لا يجوز فعلها إلا بأمر الدولة، وقد يكون فرض عين إذا دخل جيوش الغزاة والمحتلون بلاد المسلمين على كل من لاقاهم من أهل البلاد، وهو ما يسمى دفع الصائل، وهو أشد أنواع الجهاد وجوبا للحفاظ على حرمة الدين والدنيا، واعتبره الفقهاء في منزلة تالية بعد أركان الإيمان.

يقول ابن عابدين "الحنفي" في حاشيته الجزء الثالث ص 328:
"وفرض عين إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام فيصير فرض عين على من قرب منه، فأما من وراءهم ببعد من العدو فهو فرض كفاية إذا لم يحتج إليهم، فإن احتيج إليهم بأن عجز من كان بقرب العدو عن المقاومة مع العدو أو لم يعجزوا عنها ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على من يليهم فرض عين كالصلاة والصوم لا يسعهم تركه، وثم وثم.. إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقًا وغربًا على هذا التدريج".

وعلى ذلك فقد تبين أن كل الجماعات الإرهابية قد سرقت مصطلح الجهاد الشرعي من أصحابه ونسبته لنفسها، وهو ما شوه المصطلح ذاته وأراق الدماء المعصومة.

"الجهادية" والجيوش لمن؟

لعهد قريب كان يطلق على الجيش مصطلح "الجهادية" نسبة إلى الجهاد، وفي الماضي كان للدولة الإسلامية أميران، أحدهما أمير الصلاة، والآخر أمير الجهاد، وكان الآخر بمثابة الرجل الأول أو الثاني في الدولة، وهكذا كان مصطلح الجهاد معروفا محدد الملامح، متوافقا مع الشرع، لا يجرؤ أحد على تحريفه، إلا أنه وقعت متغيرات في الأمة الإسلامية بعد ذلك، وتفرق المصطلح بين الجماعات الإرهابية، وصار هو المنطلق الأول الذي تتحرك منه، خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية، وظهور جماعة الإخوان التي خدعت ملايين المسلمين بمصطلح الجهاد، الذي جعلوه ركنا من أركان الجماعة الخمس، في شعارهم الطويل الذي يعبر عن الأركان الرئيسية للجماعة، وهي" الله غايتنا، الرسول زعيمنا، القرآن دستورنا، الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
وهي شعارات كما ترى جذابة براقة، تخدع الكبير قبل الصغير، كما وقع خطأ آخر من الحكومات برفع اسم الجهاد أو الجهادية من الجيش واستبداله بمصطلحات أخرى منها وزارة الدفاع أو الحربية وغيرها، ورغم المنطلقات العقدية الراسخة لكل الجيوش الإسلامية النابعة من الإسلام، فقد كان من الأفضل أن تحتفظ الدولة الشرعية بمصطلح "الجهاد" لنفسها، حتى لا تتركه يتشتت بهذه الصورة التي جعلته لصيقا بالجماعات التكفيرية والإرهابية فتحول من شيء مشروع إلى إرهاب منظم.