رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شرعية الإنجاز.. أبي أحمد وورقة السد

منذ أن وضع رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق " ميليس زيناوي" حجر الأساس للسدّ الإثيوبي، في الفترة التي كانت فيها مصر منشغلة بأوضاعها الداخلية عام 2011، واتخذ السد رمزية تجاوزت أهدافه التنموية، وأصبح السد رمزًا لنهضة إثيوبيا وحلمًا قوميًا طال انتظاره. وبرزت تلك الرؤية في خطابات النخبة الإثيوبية الحاكمة، التي طالما عكفت على وصف السد كونه انجازًا تاريخيًا ورمزًا للاصطفاف الوطني والتعبئة الشعبية وعاملًأ من عوامل الوحدة ونبذ الانقسامات والخلافات العرقية.

تُرجمت تلك الرؤية في سياسات إثيوبيا للتعامل مع السد، بداية من التمويل والبناء وصولًا إلى سياسات الدفاع حيال الدول الإقليمية المناهضة لنهضة إثيوبيا بحسب رؤيتهم الاستراتيجية. وتستند تلك الرؤية إلى اعتبار مصر " النقيض الاستراتيجي" الذي يسعى لتقويض مكانة إثيوبيا الإقليمية. وبحسب تلك الرؤية، تسعى النخبة الحاكمة إلى حشد كافة الموارد من أجل مواجهة هذا المنافس الإقليمي؛ لذا كان إقامة سدّ على النيل هو ترجمة للرغبة الإثيوبية في تعزيز السيطرة والمكانة الاستراتيجية، دون النظر إلى الاتفاقيات التاريخية، التي ترى فيها اجحافًا تاريخيًا بحقوقها ومكانتها لصالح عدوها الإقليمي الأول. 

لهذا، لا غرابة في المغالطات الدائمة في التعامل مع أزمة السد، سواء على مستوى السياسة أو حتى الخطاب الإعلامي الإثيوبي، الذي طالما انطلق من المظلومية التاريخية والرغبة المصرية في الاستحواذ على مياه النيل. والحقيقة، أنها مغالطات عمدت النخب الإثيوبية المتعاقبة إلى تضخيمها من أجل القفز على سياسات الفرقة والانقسام الداخلية.

بل جاءت كافة السياسات الداخلية والخارجية الإثيوبية مستندة على فزّاعة "العدو الخارجي"، الذي يجب حشد كافة الجهود من أجل مواجهته، لهذا كان تحقيق نهضة اقتصادية داخليًا وفائض قوة خارجيًا هو جزء من سياسات ترمي إلى تعظيم مكانة إثيوبيا إقليميًا لمواجهة – مصر-خصمها الاستراتيجي والتاريخي.

انعكست تلك العقيدة الاستراتيجية، حينما وضع زيناوي حجر الأساس للسد، وخرج حينها بخطابًا يصف السد كونه ملحمة وطنية كبرى، ودعا حينها مواطنيه إلى المشاركة في تمويل السدّ وطنيًا، ليس فقط للتغلب على مشاكل التمويل، ولكن حتى يشعرون بملكيتهم الوطنية للسد ومن ثمّ الاشتراك في الدفاع عنه.

وواصل " أبي أحمد" سياسات سابقيه، بمواصلة التعنت في مواقفه التفاوضية، رغم ما أبداه من موقف مرن  مزعوم فور وصوله كجزء من مشروعه للسلام الإقليمي،  ثمّ تحول مشروع السدّ لورقته الإخيرة للهروب من أزماته الداخلية وانقسامات بلاده العرقية، والتي ساهمت سياساته في تعميق أزماتها، والتي كلما ضاقت عليه هرب إلى ورقة السد، التي يجد فيها الملاذ الآمن للترويج لخطاب الوحدة والآمال المشتركة. 

فبعد أن فشل أبي أحمد في الترويج لمشروعه السياسي الذي رمى من ورائه لبناء دولة مركزية تنصهر فيها كافة الاختلافات العرقية، واصطدم بتناحر العرقيات والقوميات التي لم تجد ما يجمعها، حتى أدخل البلاد في حربًا أهلية، بل وأثبت الصعود الإثيوبي اقتصاديًا وخطاب النهضة هشاشته، مع هبوط معدلات النمو الاقتصادي سريعًا، بعد عقود من خطاب النهضة؛ تمسك أبي أحمد بورقة السد، كورقته الوحيدة لخلق شعورًأ وطنيًا جامعًا، وكورقة يعبر من فوقها الإثيوبيون على أزماتهم المتجذرة تاريخيًا. 

لهذا، لا غرابة في خطابات أبي أحمد ونخبته في إيصال رسائل تصعيدية من محيط السد، كلما تفاقمت أزماتهم الداخلية، فبعد تراجع شعبيته على خلفية الانتخابات التي فاز فيها حزبه الجديد " الإزدهار"، ومع استمرار الأزمة في تيجراي، وتصاعد الانقسامات والمواجهات العرقية، علاوة على تفاقم أوضاع البلاد الاقتصادية وتفاقم أزمات الأمن الغذائي في البلاد؛ لا يمكن توقع أيّ مرونة في سلوك بلاده التفاوضي. 

ويمكن أن يبرر ذلك الاستمرار في الملء والتشييد دون التوصل إلى اتفاق، ففي جزء منه عدم قدرة من يحكم إثيوبيا على إبداء مرونة في التفاوض، بما يتعارض مع الرؤية الحاكمة للعقلية الإثيوبية التي ترى في مصر الخصم الاستراتيجي، ويتعارض الالتزام القانوني كذلك مع منطق السيادة المطلقة التي تراها إثيوبيا، لذا فهم يمضون في الملء والتشغيل دون انتظار المسار التفاوضي. 

وبعد أن أقدموا على الملء الأول في 2020، والملء الثاني في 2021، رغم استمرار المفاوضات، أطلّ علينا أبي أحمد في العشرين من فبراير المنصرم،  ليهنئ الإثيوبيين ببدء توليد الكهرباء من السد؛ ففي مشهد درامي، ظهر أبي أحمد من موقع السدّ ليقص شريط الاحتفال بافتتاح السد، مهنئًا الإثيوبيين قائلًا : "بينما تحتفل إثيوبيا بميلاد عهدٍ جديد، فإنني أهنئ جميع الإثيوبيين، هذه أخبار جيدة لقارتنا ولدول المصب نطمح للعمل معًا". 

أثار ذلك المشهد مخاوف وغضب المصريين، مع استمرار الحيرة من كيفية التعامل مع ذلك السلوك الإثيوبي، حتى وإن كانت تحركاتهم رمزية وتعكس في كل مرة قصور الجوانب الفنية والتشغيلية، وكذلك زيف الادعاءات والمبالغات الإثيوبية، إلا أنها تؤكد على الجانب الآخر الرغبة في فرض سياسة الأمر الواقع. 

ولا يهم الرأي العام المصري الفشل الإثيوبي في تخزين كمية المياه المستهدفة، ولا ضعف القدرة الكهربائية المتولدة من توربين واحد من إجمالي 13 توربين للسدّ، ولكن ما يشغل المواطن بحق، سؤلًا فحواه كيف ستحفظ مصر أمنها المائي إزاء سياسة كسب الوقت وفرض الأمر الواقع؟. وكيف ستترجم الدولة تصريح الرئيس السيسي " أمن مصر المائي خط أحمر" ؟. والإجابة عن هذه التساؤلات تطول، وبحاجة إلى حديث آخر، لكن مجمل القول أن الدولة المصري تعي جيدًا لمحددات أمنها القومي وتتحرك للحفاظ عليه، بخطوات رشيقة، بحاجة لتسليط الضوء عليها، حتى يطمئن المصريون.  

  • باحث بوحدة الدراسات الإفريقية – المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية