رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف نواجه شطحات الأفكار؟

يبدو أننا نجني ثمار تراكمات طويلة، انهالت على العقلية المصرية، فأثرت في طريقة تفكيرها، وقعدت بها عن التفكر والتدبر، وبالتالي حدت من قدرتها على التمييز بين الغث والثمين.. وأصبح من كان معك مؤيداً، داعياً لك بالنجاح والفلاح، ومن كان معارضاً، إنهال عليك بالشتم والتوبيخ، وربما طالب برقبتك، حتى يستريح منك الناس.. وغفل الغافلون عن أن علاج الفكر لا يكون إلا بفكر مثله، لأن الفكر المنحرف لا يمكن علاجه والقضاء عليه، إلا بفكر صحيح سليم، حتى ينتهي ذلك الفكر الخاطئ ويستبدل بفكر نير واضح، معتمد على كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.. وهنا نتساءل عن أسباب نجاح علاج الفكر بفكر مثله.. وماهي الفائدة أو الفوائد من علاج فكر بفكر؟.. وكيف تكون هذه المعالجة؟.. وما هي الوسائل الممكنة التي يمكن الاستفادة منها واستغلالها في علاج الأفكار المنحرفة واستبدالها بأفكار صحيحة سليمة؟.
هناك العديد من الأسباب التي تجعل علاج الفكر المنحرف بفكر صحيح علاجاً ناجعاً ومحققاً لمبتغاه.. فالقناعات لا تزول إلا بقناعات، لأنه قد ترسخت لدى معتنق الأفكار المنحرفة قناعة ذاتية داخلية بصحة هذه الأفكار، ولا يمكن لصاحبها أن يتنازل عنها مهما كلفه ذلك، وحتى لو ادعى أنه ترك هذه الأفكار عند معاقبته أو إرادة معاقبته، فإنه لا أحد يعلم صحة تركه لهذه الأفكار، ما لم تكن لديه قناعة بعدم صحة ما كان يعتقده، وأن الصحيح هو ما كان يجهله، ولم يكن مقتنعاً به في السابق، وهذا يتطلب مناقشته في الأفكار التي كان يعتقد صحتها وهي في حقيقتها خاطئة، وتكون هذه المناقشة مبنية على الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، وأقوال أئمة العلم والهدى.. فإذا اقتنع بما يسمعه من العلم الصحيح، تخلص من هذه الأفكار وابتعد عنها، وحذر غيره منها، وأصبح هو الذي يبين خطرها وفسادها لغيره من الأصحاب والأقران.. وهنا يأتي دور رجال الفكر والعلم، من العلماء وطلبة العلم والمربين، وكل منهم يكمل الآخر، فالمجتمع المسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، كما أخبرنا الرسول، صلى الله عليه وسلم.
إن مبدأ معالجة الأفكار كان موجودة منذ عهد النبوة.. فالنبي، صلى الله عليه وسلم، كان دائماً ما يعالج الأفكار بإقناع أصحابها بالأفكار الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة، فإذا اقتنعوا رجعوا هم بأنفسهم عن ما كانوا عليه من الأفكار الخاطئة.. ومن الأمور الدالة على هذا، قصة الشاب الذي جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يستأذنه في فعل الفاحشة ببنات أو أمهات الناس.. وهذا يدل على أن هذا الشاب كان لديه فكر غير صحيح، ولذلك ناقشه النبي، صلى الله عليه وسلم.. فقال له: هل ترضاه لأمك، قال الشاب لا.. قال: هل ترضاه لأختك، قال الشاب لا.. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم وأخواتهم.. فاقتنع الشاب بأن الفكر الصحيح، هو ما أقنعه به النبي، صلى الله عليه وسلم.. ما أجمل هذا الاسلوب التربوي من الرسول، صلى الله عليه وسلم، حيث ساق للشاب مقارنة إنسانية، بين ما يريده من فعل الفاحشة، وبين ما لا يريده من فعلها بقريباته، وأن ما لا يرضاه هو لمحارمه فإن الناس لا يرضونه لمحارمهم.. فاقتنع الشاب مباشرة، ثم دعا له النبي، صلى الله عليه وسلم.. فقال الشاب (فخرجت من عند النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبغض شيء عندي هو الزنا).
والشواهد على اسلوب الإقناع في القرآن كثيرة جداً، منها ضرب الله عز وجل الأمثال وذكر قصص الأمم السابقة، كما أمر سبحانه وتعالى بالاعتبار والتفكر والتعقل في آيات كثيرة، ومن هذه الآيات، قوله سبحانه وتعالى ﴿ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون..﴾، وقال سبحانه ﴿ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون﴾، وقال سبحانه طالباً من عباده الاعتبار من حالم الامم السابقة ﴿أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم..﴾ وقال سبحانه وتعالى طالباً من عباده التفكر والاعتبار ﴿أفلا يتفكرون﴾ ﴿أفلا يعقلون﴾ ﴿فاعتبروا يا أولي الابصار﴾ وغير ذلك من الآيات.
هذا عن صاحب الأفكار المنحرفة.. فكيف نحمي من يتعرضون لأفكاره؟.
للجامعات والمعاهد المتخصصة دور مهم في ذلك، من خلال الدراسات العلمية وإعداد الرسائل ونحوها، بما يعالج الأفكار المنحرفة علاجاً جذرياً، يؤدي إلى القضاء عليها وإنهائها.. ثم تأتي الأبحاث والمسابقات، سواء من خلال الجامعات والمؤسسات العلمية، أو غيرها من المؤسسات والجهات التي تعنى بعلاج مثل هذه الظواهر والجرائم، التي تهدد كيان المجتمع بأسره، مع ضرورة نشر نتائج هذه الابحاث، حتى يطلع عليها أكبر عدد ممكن من الناس ويستفيدوا مما جاء فيها.. ولا يخفى على الجميع أهمية وسائل الإعلام في وقتنا الحاضر، ووصولها إلى معظم البيوت، وهذا يجعل منها وسائل ذات أهمية بالغة، في علاج مثل هذه الأفكار علاجاً علمياً مناسباً، سواء أكان هذا العلاج من خلال التليفزيون والقنوات الفضائية، أو الراديو أو الانترنت أو الجرائد والمجلات المتخصصة، وغيرها.. شريطة أن يتصدى للعلاج أهل العلم والاختصاص.
وأنجع العلاج يأتي من المساجد، وهي من أهم الأماكن التي يمكن من خلالها علاج الأفكار الخاطئة وبيان الأفكار الصحيحة، سواء من خلال خطب الجُمعة، أو الدروس والمحاضرات، مع ضرورة حرص الأئمة على بيان فتاوى كبار العلماء وتوضيحها، وتفصيل ما يحتاج منها إلى توضيح، والرجوع إلى هؤلاء العلماء، فيما قد يُشكل من مسائل، وتوضيحها للناس.. وتحتل المدرسة نفس المكانة، التي يمكن من خلالها تشكيل أفكار الطلاب وتصحيح الخاطئ منها.. حتى الأنشطة الطلابية، يمكن من خلالها إيصال الأفكار الصحيحة، وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح، كذلك المراكز الصيفية والأنشطة اللاصفية، إضافة إلى المواد الدراسية، التي يمكن من خلالها بيان الصحيح من الخطأ من الأفكار، وخطورة الأفكار المنحرفة على الفرد والمجتمع، وضرورة محاربة هذه الأفكار، وبيان حاجة المجتمع إلى الوقوف صفاً واحداً، في محاربة تلك الأفكار والقضاء عليها.
ولا يخفى عظم الدور المطلوب من الوالدين والأهل، وأهمية اهتمامهم بتوجهات أبنائهم، وملاحظة ما يطرحونه من أفكار، ومع من يخرجون، وأين يقضون أوقاتهم، وماذا يشاهدون أو يقرأون، والحرص الشديد على مناقشة هؤلاء الأبناء وإقناعهم بالأفكار الصحيحة.. والعاقل الحصيف يعلم أن الحلول المؤقتة أو الانفعالات الآنية، لا تحل مشكلة انحراف الأفكار، بل لا بد من حلول جذرية علمية مناسبة ومستمرة، حتى تنتهي المشكلة وتقتلع من جذورها.. وللحديث بقية.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.