رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صواريخ الحوثى.. ومدى زعزعة الاستقرار الإقليمى

 

بعد أن بدأت ميليشيا الحوثى باستهداف أبوظبى بالطائرات المسيرة، سرعان ما نقلت مستوى الهجمات إلى إطلاق الصواريخ البالستية، حسب ما أعلنته السلطات الإماراتية فى بياناتها الرسمية، وتبنى ذلك بوضوح متعمد بالطبع الإعلام الحوثى. ولا يمكن توصيف تلك النقلات النوعية المتلاحقة سوى أنه تنامٍ خطير لمستوى التهديد، حتى وإن كانت الأراضى السعودية قد تعرضت لذلك عدة مرات من قبل، بحيث يمكن اعتبار مجابهة القصف الحوثى، قد تم ترويضه وإجهاضه المتوالى من قبل الدفاعات السعودية المحكمة. فالتمدد الذى جرى باتجاه الإمارات يعد تطويرًا مقصودًا لقواعد الاشتباك مع مكون رئيسى من مكونات التحالف العربى، وربما لهذا كان الإسراع العملياتى الإماراتى، ليس فقط بنجاحه فى إجهاض الهجوم الصاروخى الأخير واعتراضه، إنما بامتلاكه القدرة على تدمير منصة الإطلاق فى منطقة الجوف اليمنية.

هذا الأخير يعد ثالث هجوم صاروخى على الإمارات هذا الشهر، وكونه أمرًا فارقًا بالنسبة للإمكانيات الحوثية على الأقل، ذهب البعض مبكرًا إلى اعتباره رسائل من إيران وليس من الحوثيين، باعتبار الجماعة ليس لديها أى قرار من نفسها، إنما تدار بشكل مباشر من قبل النظام الإيرانى، وأن طهران تقصد من ذلك بشكل مباشر إظهار قدرتها على تشغيل الميليشيات والجماعات المسلحة من اليمن والعراق وسوريا، فى حين تلعب لعبة مزدوجة على مائدة فيينا فى حديثها التفاوضى مع الغرب. لكن الوضع الميدانى على الأرض ربما يسبق هذا بمشهد آخر، قد يبدو قريب الصلة من هذا التطوير والاندفاع لفتح جبهة قتال ثانية من قبل الحوثى، هذا يتعلق بنجاح «ألوية العمالقة» فى طرد ميليشيات الحوثى من أجزاء مهمة من محافظة «شبوة» فى الجنوب وبدأت معركتها لانتزاع أجزاء من مأرب أيضًا. فى الوقت الذى حرص الحوثيون، طوال سنوات الحرب، على النجاح فى السيطرة على مأرب، باعتبارها محافظة حيوية غنية بموارد الطاقة، وتمثل آخر معقل رئيسى للحكومة اليمنية فى شمال البلاد، لكن الانتكاسات الأخيرة التى تعرضوا لها يعزونها إلى انخراط الإمارات مجددًا بجهد بارز فى الحرب، مما سيجعل الاستيلاء على مأرب بعيد المنال.

الرابط بين الدافعين لتطوير قواعد الاشتباك، واعتبار المتغير الميدانى بالضرورة يسبق المناورات السياسية الإيرانية، باستخدام التصعيد كأوراق فى ساحة التفاوض، تدفع بالتساؤل عن حقيقة ارتباطهما، خاصة من جهة استقباله أمريكيًا، والتى تجلس على الجانب الآخر من مائدة فيينا. فالجانب الأمريكى يحق له استشعار بعض من القلق لو وضع فى الاعتبار الأميال القليلة التى تفصل منطقة «المصفح»، التى نجح فيها الاستهداف الحوثى عن قاعدة «الظفرة» الجوية التى تنتشر فيها القوات الأمريكية ومعداتها، وسترغب واشنطن فى معرفة مكان انطلاق الطائرات المسيرة والصواريخ والمسافة التى قطعتها، وما إذا تم استخدام أنظمة الدفاع الجوى الإماراتى بصورة فعالة. ولهذا السبب وغيره بدأت الأصوات الأمريكية تتعالى مرة أخرى؛ من أجل استعادة تصنيف «الحوثى» كجماعة إرهابية، باعتبارها مهددًا حقيقيًا للمصالح الأمريكية، حتى وإن ظل هناك استبعاد لدعم الحلفاء الإماراتيين، وهذا صار محرجًا بأكبر مما تحمله واشنطن الآن على الأقل. فهى قبلُ لم تقدم دعمًا ملموسًا للمملكة السعودية يمكنه إحداث فارق، بل تعاملت بحذر مع استهداف المدنيين والمنشآت الاستراتيجية على أراضيها وتركت الرياض بمفردها تواجه الأمر بإمكاناتها الذاتية.

بالعودة إلى إيران مرة أخرى، يبدو دورها الحالى يستهدف أمرين كلاهما يحمل قدرًا من الخطورة المرشحة للتنامى، فهى فى جانب من هذا التطور تنتهج مباشرة إضعاف أعدائها مهما حاولت التظاهر بعكس ذلك، فى حقيقة العداء وفى مستهدفات إشعال وإذكاء الحرب من الأساس. ورغم حرص أذرع إيران طوال الوقت على إثبات استقلاليتها عن قرار طهران، فإن القريبين من مسارح العمليات لديهم تفسير جازم أثبته العديد من فصول الصراعات بالمنطقة، وهو أن الضربات الداخلية التى توجهها تلك الميليشيات فى نطاقات عملها، ليست بالضرورة بأوامر أو تكتيكات إيرانية، لكن فيما يخص الضربات الخارجية، فإنه من الصعب استبعاد أن إيران غير مرتبطة، بل ولها حساباتها الدقيقة التى تفرضها على تلك الأذرع جميعها دون استثناء. فهناك بديهية حاضرة أمام طهران طوال الوقت، هناك الشق العقائدى الصارم والإلحاح الإعلامى فى ارتباط الميليشيات بمكونات تلك العقيدة، مثل الحرس الثورى وغيره من المؤسسات الإيرانية الظاهرة فى تمكينها لتلك الميليشيات، فضلًا عن وعى إيران بأن كل دول المنطقة وخارجها تفسر تحركات هؤلاء على أنها رسائل منها، لهذا فهى مجبرة على إخضاع تلك الميليشيات لأجندتها وتوقيتاتها الخاصة.

ربما يكون مشهد الاستقرار الإقليمى فى حاجة ماسة إلى ترتيب جديد قد يبدو ذا صلة بتطوير التنسيق السعودى الإماراتى فى مجال الدفاعات الجوية بالأخص، بعدما ساهم ذلك على الأرض فى تحقيق تغيير إيجابى بريًا داخل اليمن. ولهذا الأمر بعد سياسى يرتبط بدفع الحوثيين إلى مائدة التفاوض، الذى بذل فيه المجتمع العربى والدولى جهودًا كبيرة للانخراط بجدية فى محادثات السلام، أجهضها الحوثيون لمجرد شعورهم بقدرتهم على تحقيق نصر شامل يمكنهم به ابتلاع كامل اليمن. وهذا الضغط فى الوقت الراهن وعلى خلفية الإدانة الدولية الواسعة لهجمات أبوظبى، يحتاج إلى استثمار عاجل، وإلى دعم صريح من الولايات المتحدة، فى حال بدأت تستشعر هى الأخرى أن استهداف مصالحها الحيوية صار واقعًا اليوم، بأكثر من وقت مضى. فهناك تهديد حقيقى لحركة الملاحة الدولية، قد يلجأ إليه الحوثى فى حال فشل مستقبلًا فى تطوير الاستهداف الإماراتى أو عجز عن مواصلته بهذا الزخم. فواشنطن ما زالت تملك الكثير فى هذا الملف، ومعادلة الاستقرار الإقليمى فى هذه الساحة تصب لصالح الولايات المتحدة تمامًا، كما هى بالنسبة لدول المنطقة، فالعمل على ضوء أجندة دولية جديدة يمكنه أن يخلق واقعًا جديدًا أكثر إيجابية لإمكانية الوصول إلى تسوية سلام، وانخراط حقيقى فى عملية سلام وفق المرجعيات العديدة الحاضرة فى هذا الملف، فقط تبقى الإرادة ووضوح الرؤية لدى واشنطن، التى ما زالت قادرة على حشد وتحريك المجتمع الدولى فى قضايا إقليمية من هذا النوع.

فمن دون تلك الإرادة يبدو الجانب المقابل للصورة قاتمًا إلى حد كبير؛ حيث مضى الحوثيون، كما ورد فى بيانهم الذى أعلنوه بعد هجومهم الأخير، إلى فتح باب الاستهداف غير التقليدى فيما أسموه «إعصار اليمن الثالث»، بالإشارة إلى ضرب أهداف نوعية وهامة فى أبوظبى بعدد من صواريخ «ذو الفقار» البالستية، وقدرتهم على الوصول إلى أهداف حساسة فى دبى بعدد من الطائرات المسيرة من نوع «صماد ٣». وهذا مع التحذير الذى وُجِّه للمواطنين والمقيمين والشركات، بالابتعاد عن المقرات والمنشآت الحيوية، كونها عرضة للاستهداف خلال الفترة المقبلة، يعطى مؤشرًا واضحًا أن خوض الحرب مفتوحة المدى- زمنيًا- يظل خيارًا حوثيًا، مع قدرتها على احتمال تبعاته إن ظلت فى ذات النسق الذى دار خلال أعوام الحرب الماضية.