رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أفغانستان: جناية الجغرافيا وقسوة التاريخ «٢-٢»

 

رأينا فى المقال السابق مظاهر جناية الجغرافيا على أفغانستان، سواء من حيث وعورة التضاريس، أو مشاكل الجغرافيا البشرية والاقتصادية، أو حتى الحدود السياسية الملتهبة مع قوى إقليمية تنظر إلى أفغانستان نظرة اللادولة، وأنها- أفغانستان- مجرد منطقة عبور «ترانزيت»، أو دولة حاجزة بين قوى إقليمية متصارعة.

وقد انعكس كل ذلك فى حقيقة الأمر على حركة التاريخ فى أفغانستان على مر العصور، ومنذ التاريخ القديم وُصِفَ تاريخ أفغانستان بأنه تاريخ تبعية للقوى الكبرى، وخير مثال على ذلك دخول أفغانستان فى إمبراطورية الإسكندر الأكبر، كما أصبحت أفغانستان ميدانًا للصراع بين الدول الكبرى التى حكمت إيران والهند فى التاريخ القديم.

وبعد ذلك اجتاحت قبائل «الهون» أفغانستان، واستمر الوضع هكذا حتى استطاعت الدولة الساسانية فى فارس السيطرة على أفغانستان، ثم حدث التطور الأكبر فى تاريخ منطقة الشرق الأوسط بظهور الإسلام وما أعقبه من موجة الفتوحات الإسلامية، ونجح العرب فى إسقاط الدولة الساسانية، وبدأت قواتهم تندفع نحو أفغانستان. وفى تلك الأثناء نجح المسلمون فى السيطرة على شمال أفغانستان، بينما كانت قوة البراهمة الهنود مُحكمة على جنوب أفغانستان، ولكن رويدًا رويدًا استطاع المسلمون السيطرة على كامل أفغانستان، التى تم اتخاذها محطة رئيسية لموجات الفتوحات الإسلامية نحو الهند.

وظهرت عدة دول كونت دولًا إسلامية فى المشرق الإسلامى تركت أثرها على تاريخ أفغانستان فى العصر الإسلامى، فعندما بدأت الأسرة الطاهرية فى السيطرة على خراسان وتكوين الدولة الطاهرية، كان من الطبيعى أن يمتد نفوذهم إلى أفغانستان. وعندما كوَّن آل الصفار الدولة الصفارية فى سجستان وهرات، كان من الطبيعى أيضًا التمدد إلى أفغانستان.. ثم دخلت أفغانستان فى تبعية الدولة السامانية، هذه الدولة التى انبثقت منها الدولة الغزنوية، فدخلت أفغانستان فى تبعية الغزنويين.

وفى مطلع العصور الحديثة انتقلت تبعية أفغانستان إلى الدولة الفتية الجديدة فى آسيا «دولة المغول المسلمين» فى الهند، لكن أمر أفغانستان لم يستقر عند هذا الحد؛ إذ ترتب على صعود الدولة الصفوية فى إيران عودة الصراع التقليدى التاريخى بين مَن يحكم الهند ومَن يحكم فارس على أفغانستان، وأصبحت أفغانستان ميدانًا للصراع بين دولة المسلمين المغول فى الهند والدولة الصفوية فى إيران، وترك ذلك الصراع آثاره على الانقسامات الداخلية فى أفغانستان نفسها.

ومنذ أواخر القرن الثامن عشر، ومع تغلغل نفوذ شركة الهند البريطانية فى الهند، بدأ النفوذ البريطانى فى التدخل فى أفغانستان، وردًا على ذلك تحالفت فرنسا- العدو التقليدى لبريطانيا- مع روسيا وفارس لمقاومة النفوذ البريطانى فى المنطقة، وتخوَّف الجميع من أن تصبح أفغانستان معبرًا لجيوش الخصم لضربه، لذلك بدأ الصراع الاستعمارى الدولى على أفغانستان، ووصل الأمر إلى حد قيام بريطانيا بغزو أفغانستان برًا للحيلولة دون التوغل الفارسى والروسى فى أفغانستان، وتعرضت بريطانيا العظمى لهزائم مريرة فى مستنقع أفغانستان.

ولم يتعلم الاتحاد السوفيتى من التجربة البريطانية المريرة فى أفغانستان؛ إذ قام بغزو أفغانستان، لتدور حرب عالمية صغيرة على أرض أفغانستان، رُفِعت فيها شعارات غريبة مثل «الجهاد الإسلامى» و«القضاء على الشيوعية»، ولا نبالغ إذا قلنا إن تورط الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان قد عَجّل بسقوط الاتحاد السوفيتى، بل والكتلة الشرقية كلها. 

ومرة أخرى لم تتعظ أمريكا من الدرس السوفيتى فى أفغانستان، وتورطت منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١ فى حربٍ ضروس فى أفغانستان، انتهت بخروجٍ مُهين لأمريكا هذا العام، وعودة حكم طالبان.

هل كنا نُبالغ إذ وصفنا الحالة الأفغانية بأنها جناية الجغرافيا وقسوة التاريخ؟