رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«السقّا مات».. وعاشت الحنفية

كان ولم يزل النيل مصدر الماء الذى جعله الله رحمة للبشر وسرًا من أسرار حياتهم. منه كانت الفلاحة المصرية تملأ جرتها لتزود أهل البيت بما يحتاجون إليه من سر الحياة، كان مشهدًا أساسيًا من مشاهد الصباح فى الريف المصرى أن تجد فتيات القرية وقد هرعن إلى النيل حاملات الجرار على أكتافهن أو فوق رءوسهن، وما أن يصلن إلى فرع النيل الذى استقر فى القرية حتى يسعدن بإدلائها فى الماء حتى تمتلئ عن آخرها ثم يعدن حاملات سر الحياة إلى بيوتهن.

فى القاهرة كان الأمر مختلفًا بعض الشىء، فقد كان الإتيان بالمياه وظيفة احترفتها مجموعة من الرجال يسكنون حارة واحدة، كما تعود أهل المهن المختلفة فى الماضى، تسمى «حارة السقايين» أو ينتشرون فى حوارى ودروب القاهرة الأخرى. غنت المطربة الراحلة شريفة فاضل أغنية لطيفة لحارة السقايين قالت فيها: «ما تروحش تبيع المية فى حارة السقايين». ويبدو أن هذه العبارة كانت أقرب إلى المثل الدارج بين المصريين استوحاها المبدع الراحل حسين السيد من المخزون الشعبى الذى لا ينضب للإبداع المصرى.

مهنة «السقا» كانت من المهن الشائعة فى مصر على مدار القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين. وكان العمل فيها يعتمد على حمل قرب المياه الجلدية على عربة «كارو» والذهاب إلى النيل ليتم ملؤها منه، ثم تحمل على العربة، لتوزع على أهل الحى أو الحوارى المتعاقدين مع السقا على تزويدهم بالمياه يوميًا.

أحيانًا ما كانت تقع حوادث مفزعة أثناء ملء القرب «بضم القاف»، خصوصًا عندما كان يصطحب بعض السقائين أطفالهم للمساعدة فى العمل، وإعدادهم للمستقبل ليرثوا الصنعة عندما يشبون ويشيب الآباء، ويقال إن الهتاف الذى كان كثيرًا ما يتردد على لسان السقائين، وهو هتاف «يعوض الله» سره أحد السقائين الذى اصطحب ابنه ذات مرة إلى النيل لملء القرب، سها الأب عن طفله لثوانٍ، حين كان الأخير يحاول إدلاء قربة ليملأها بالماء، فاختل توازنه وسقط، ليموت غريقًا، تجمع السقائون على الأب المكلوم يواسونه فأخذ يردد: «يعوض الله.. يعوض الله»، فصارت عبارة أثيرة لدى كل من يعملون فى هذه المهنة، والهتاف بها دليل على أن «السقا» وصل إلى الحارة، فيجهز من يريد «أزياره» أو الطشوت أو علب الصفيح.

يقول صاحب كتاب «الحياة الاجتماعية فى مصر فى عصر إسماعيل»: عندما تولى عباس الحكم فكّر فى تعميم مياه الشرب عن طريق وابورات المياه وتوزيعها بمواسير داخل البلد، وبدأت الإنشاءات الهندسية للمشروع، لكن الوالى استكثر بعد ذلك المبلغ المطلوب لإتمام المشروع «١٢٠ ألف جنيه» فأوقفه. وكان يوجد فى الإسكندرية شركة مياه يملكها مجموعة من الأجانب حصلوا على امتياز تشغيل الشركة مقابل ما دفعوه للوالى، فى حين كانت شركة مياه القاهرة مملوكة للمسيو كوريه، ودفعت الدائرة السنية لها ١٩ ألف جنيه مقابل تزويد سكان القاهرة بالمياه، وقامت الشركة بتوصيل حنفيات عمومية داخل العديد من الأحياء بالقاهرة، مثل الدرب الأحمر والرميلة «القلعة» والعباسية، وكانت تمنح المياه فى شهر رمضان مجانًا.

أصبح السقائون يملأون المياه من الحنفية بدلًا من النيل الذى لم تعد لهم حاجة للذهاب إلى شواطئه لملء المياه، وعادة ما كانت شركة المياه تعين مسئولًا على كل حنفية يحاسب السقائين على القرب التى يقومون بملئها، ولم يكن الإشراف على الحنفية بالأمر الهين، بل كان منصبًا خطيرًا، عادة ما كان يعين فيه الأقدر على السيطرة، حتى لو اضطر إلى استعمال العنف والقوة فى بعض الأحيان.

علاقة «السقا» بالمياه أوجدت لديه إحساسًا بالصبر المرتكز على الإيمان من ناحية، وإحساسًا نقيضًا بالخوف من أقدار الحياة التى كما تعطى تأخذ وتحرم «ويعوض الله». هذه المراوحة بين الإيمان والخوف من المقدور فى حياة «السقا» عبّر عنها الراحل يوسف السباعى فى روايته الأشهر: «السقا مات»، وهى الرواية التى تتصدرها الآية الكريمة التى تقول: «والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون».

تدور أحداث الرواية حول صنبور المياه الحكومى، القائم فى إحدى زوايا درب السماكين، أمام كشك صغير تربع فيه «سيد الدنك» الآمر الناهى فى مياه الحى، الحاكم بأمره فيها. ويقع درب السماكين بحى الحسينية الذى يعيش فيه بطل الرواية «المعلم شوشة»، وهو واحد من أشهر السقائين، كان متزوجًا من فتاة رقيقة تعرّف عليها داخل القصر الذى تعمل فيه، والذى كان يتولى سقيا حديقته، لكنها توفيت فجأة ودون سابق إنذار وتركت له ابنه الوحيد «سيد» الذى قرر «شوشة»- مثلما يفعل أى سقا- أن يسقيه الصنعة حتى يعمل بها عندما يشب.

أصيب «شوشة» بحالة اكتئاب عنيفة بعد وفاة زوجته، وأصبح يخشى الموت، ويبغضه بعد أن خطف أحب الناس إليه، أحب زوجته آمنة فخطفها، وأحب صديقه شحاتة فاختطفه. كان شحاتة يفهم الدنيا والبشر أكثر منه. «إن الحياة حقيرة، لكننا من نفس معدنها.. كيف نعرض عنها ونحن أشد حقارة.. ليس هناك أحقر ولا أغفل من البشر.. أهناك أشد غفلة من مخلوق يغفل عن نهايته؟.. أهناك أكثر غفلة من مخلوق يوقن من نهايته ولا يهيئ نفسه لها».

وجد «السقا» سلواه فى آية «والصابرين فى البأساء» وآية: «ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون»، حاول أن يهزم خوفه من الموت بالسير فى الجنازات وتوصيل الأموات، لكنه فى كل مرة كان يهزمه، تعددت الجولات حتى قررت الحكومة تعيينه مسئولًا عن الحنفية، بعد أن كان مجرد سقا.

«وهكذا تربع شوشة على العرش، واستوى على أريكة المياه، وبلغ أمنيته الكبرى، وأضحى المانح المانع للمياه فى الحسينية، لكنه لم يقلع عن محاولاته كسر خوفه من الموت بالسير فى الجنازات، وتمكن فى النهاية من أن يرى الدنيا على حقيقتها، أزيلت من على عينيه غشاوة الوهم، فنفذ ببصيرته إلى الحقيقة العارية».

وانتهى أمر السقا إلى الموت كما يموت كل حى، مات ردمًا تحت بيته المنهار، فى وقت نجت فيه أم زوجته الطاعنة فى السن، إنها أعمار.. ورث سيد الدنك موقع أبيه الراحل، وجلس على عرش المياه داخل الكشك الشهير بدرب السماكين، ووضع فيها اللوحة التى تحتضن الآية التى كان يؤثرها أبوه: «والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس».

مات «السقا» وعاشت الحنفية!