رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى صحبة الضيف الثقيل

جلست على المقهى كعادتي المسائية كل خميس، وإن لم أكن في أحسن حالاتي، لغياب صديقّي اللذين اعتدت الاستئناس برؤيتهما وحكيهما في هذا الموعد من كل أسبوع. غير أن صحبتنا لم تلتئم منذ ثلاثة أسابيع . فأولهما في مهمة خارج البلاد لإنهاء صفقة تجارية تخص عمله، بعد أن تعطلت لأشهر جرّاء إجراءات الحظر الصحي التي فرضتها دول كثيرة على إثر جائحة كورونا. والثاني غاب عني فجأة دون عذر أو لا مبرر، وفشلت محاولاتي المتكررة للتواصل معه عبر هاتفه . حتى إنني فكرت في أن أذهب إليه في بيته للاطمئنان عليه. لكنني تراجعت فجأة ليقيني أن زوجته تتململ من الزيارات المنزلية بنفس قدر رفضها لنزول زوجها ليقضي معنا بعض الوقت على المقهى. 
المهم، جلست ولم أجد ما يمتع في الجلسة فلا صديق ولا رفيق. وقررت العودة لبيتي والاكتفاء بمشاهدة برامج التوك شو، ثم الخلود للنوم حتى يحين موعد صلاة الجمعة في اليوم التالي. وإذا بصديقي المختفي يظهر فجأة من بعيد، فشعرت كمن رُدت إليه روحه. رحبت به بحرارة فرد تحيتي بفتور . قلت له: ماذا أصابك؟ وأين كنت يا رجل؟ افتقدتك. ولماذا أغلقت هاتفك؟ فقال وهو يبدو متعبا: إنها الكورونا، وقاك الله منها ومن تداعياتها. عاتبته بشدة: ولم لم تكلمني لأكون في خدمتك؟ قال: لم أكن أنا المريض، بل هي شقيقتي الوحيدة.
      سألته: و ما أخبارها الآن؟ أومأ برأسه قائلا: نجت والحمد لله، لكنك تعرف أنها أرملة، وولداها يعملان خارج البلاد. فلم يكن لها من يمرضها إلا أنا. لم أشأ لها أن تحجز في المستشفى رغم أن حالتها كانت تستدعي هذا. فقد تدهورت حالتها بسرعة شديدة رغم انتظامنا في العلاج الموصوف. سألته: ولماذا تأخرت في العلاج؟ قال: ذهبت لطبيب- بناء على كلام زوجتي التي حدثتني عن مهارته- وشخص الحالة بكوفيد 19، لكنني بحثت عن غيره، حين اكتشفت أن تخصصه أمراض نساء. وذهبت لآخر لقربه من منزل شقيقتي، فإذا به حسن الكلام، متواضع المهنية، بالغ في وصف العلاج، وأمهلنا عشرة أيام ليعاود متابعة الحالة. لكن حالة شقيقتي كانت تتدهور أمامي بسرعة. إلا أن الله ألهمني بأستاذ كبير، تخصص أمراض صدرية، أكملنا معه رحلة العلاج . 
أضاف صديقي: طلب الطبيب أشعة وتحاليل كثيرة كلفتني من المال ما لا أطيق، علاوة على ثمن الفيزيتا المبالغ فيه أيضا. وقبل أن أنطق استكمل كلامه قائلا: بالطبع لا يجوز أن أطلب مساعدة من أحد، حتى من ولديها، هكذا تربينا في حاراتنا الشعبية. والغريب أن زوجتي لم تمانع في أن أقوم بكامل واجبي تجاه أختي، في محنة مرضها. ثم عقّب- كعادتنا في خلط الخاص بالعام- متسائلا: متى تكتمل منظومة التأمين الصحي الشامل التي ستغطي بخدماتها جميع المواطنين في كل المحافظات، ما يعفينا من استغلال المستغلين، ويضمن العلاج بكرامة للمعوزين؟ ثم استطرد صديقي قائلا: المهم قرر الطبيب علاجا مكثفا، متوسط السعر، لا يوازي نصف الفيزيتا والتحاليل . لكن الأصعب من تكلفة الفيزيتا وثمن العلاج، كان قراره وضع أختي تحت جهاز التنفس الصناعي . وكانت مهمتي اليومية هي متابعة طعامها، وأيضا علاجها في توقيتاته المحددة . فضلا عن الاتصال بالشركات التي توفر أنابيب الأكسوجين، ناهيك عن تدبير أجر الأنبوبة وتوصيلها لبيت أختي وبقشيش الممرضين.

أضاف صديقي: في صباح الجمعة الماضية تلكأ مورد الأكسجين، وكادت الأنبوبة التي تتنفس بها أختي أن تنفد . ولم تشفع كثرة اتصالاتي بالشركة، ولا توسلاتي لمن تفضل بعد إلحاح في الاتصال أن يرد على التليفون، وهو بين النوم واليقظة. وبعد أن أمهلني لأكثر من مرة. أحالني إلى آخر، لأبدأ معه الكّرة من جديد. وحين بلغ بي اليأس مبلغه، وكدت أتيقن أنني سأفقد شقيقتي بعد سويعات مع نفاد كمية الأكسجين، ألهمني ربي أن أتصل بأرقام متوافرة على الإنترنت لشركات أخرى . فرد عليَّ أحدهم معتذرا لنفاد ما لديه، واقترح عليَّ أن أذهب إلى مصنع يملأ أنابيب الأكسجين في المنطقة الصناعية بأكتوبر . حينها لم أجد الفرصة، للتفكير . تحركت سريعا بسيارتي وذهبت إلى هناك، وتم المراد بربع سعر الأنبوبة التي تسلمها لي الشركة المبتزة في البيت . وهكذا صار عليّ  أن أمضي لأكتوبر من الدقي مرتين في اليوم . ومع تكرار التردد كوّنت صداقات مع العاملين في المصنع مما سهل من مأموريتي . ربما لسخائي معهم، وربما تقديراً منهم أنهم ينقذون حياة مريض بين الحياة والموت في انتظار نفسٍ صناعي . لم يكد صديقي ينتهي من تناول كوب الشاي حتى استأذنني في المغادرة فقد اقترب موعد تناول شقيقته لجرعة العلاج المسائية، فتركته يمضي داعيا لأخته بالشفاء وله بالثبات. 
 وعموما، قد يكون ما مر به صديقي خلال أيام غيابه قد تعرض له معظم البيوت المصرية خلال سنتين مضتا في رفقة هذا الفيروس اللعين، ولا يمكن أن ننكر جهد الدولة المبذول في مكافحته. وخاصة في مجال تدبير الأمصال من مصادر متعددة، ثم توفيرها للمواطنين بالمجان، وبعدالة شديدة وفي كل محافظات مصر . غير أننا لا نزال نأمل أن يتوافر مزيد من الأماكن التي تتيح العلاج والرعاية لمن تستدعي حالتهم الدخول للمستشفى. فمنظومتنا الطبية، حالها كحال المنظومة التعليمية، في حاجة لمزيد من الجهد والعناية ، وتعاون المواطنين دعما لمن هم في انتظار حبة دواء أو نفس أكسجين.