رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القابلية للعمالة!!

حديثى هنا عن بعض قطاعات النخبة المصرية، وليس عن النخبة كلها.. وهو بالتحديد عن القطاع الأكثر فسادًا وقدرة على إحداث الضجيج، والتمكن من الطفو على السطح عبر عصور مختلفة فى مجالات الإعلام، والسياسة، والاقتصاد والفن، حيث تتداخل المصالح، والاهتمامات والعلاقات.

وما أناقشه هنا ليس قابلية بعض أفراد النخب للفساد المالى وتبديل المواقف والصعود من الحضيض الاجتماعى إلى خانة أصحاب الملايين الكثيرة عن طريق الاتجار بأحلام الناس حينًا، وادعاء المعارضة حينًا، والتحالف مع جماعات الإرهاب والإسلام السياسى حينًا آخر.. فكل ذلك معروف ومشهود وتحدثنا عنه من قبل.. لكن التفصيلة المؤلمة فى المشهد هى قابلية بعض قطاعات هذه النخب للعمالة الخارجية وللتمول من أى قوى تستطيع أن تدفع ما دامت تدرك أنها فى مأمن من العقاب القانونى لأى سبب من الأسباب مثل توازنات السياسة أو حساباتها المعقدة.. والحقيقة أن هذه «القابلية للتمول» لها جذور بعيدة منذ الاحتلال البريطانى لمصر، وظهور مراكز قوى متصارعة على النفوذ، ما استدعى ارتباط بعض السياسيين والمثقفين بهذه القوى المختلفة والتحول منها وخوض المعارك باسمها تحت شعارات مختلفة وبنوايا مختلفة بعضها صادق وبعضها كاذب.. وقد تراجعت ظاهرة «الوكلاء الإعلاميين» للقوى الخارجية مع قيام ثورة ٢٣ يوليو، وفرض دولة يوليو سيطرتها التامة على الإعلام، وانخراط الكثير من الإعلاميين والمثقفين فى مشروعها الوطنى بحيث نتج عن هذا خروج الصحفيين المعارضين لها خارج مصر، وارتباطهم بشكل واضح ومعلن بأجهزة المخابرات الغربية «حالة محمود أبوالفتح وإذاعة مصر الحرة»، وهو ما لا ينطبق عليه وصف الوكيل الإعلامى لقوى خارجية ولكن وصف العمالة المباشرة.. وهو ليس موضوع هذا المقال.. فى الداخل أيضًا تعاملت الثورة بقسوة مع الصحفى مصطفى أمين الذى خلط بين دوره كوكيل ثقافى وإعلامى للولايات المتحدة الأمريكية وبين تقديم المعلومات للإدارة الأمريكية، ما استدعى محاكمته بتهمة التجسس رغم أن علاقته كانت تبدو وثيقة بالرئيس جمال عبدالناصر «ظاهريًا»، تغير الأمر كثيرًا مع قدوم الرئيس السادات للسلطة، والتغيرات الحادة فى السياسة المصرية وفى الإقليم أيضًا، حيث بدأ السادات عهده بالإفراج عن جماعة الإخوان وحلفائها، وقد كانت الجماعة أكبر وكيل سياسى لقوى بعينها فى المنطقة، وتم تمويلها بمليارات الدولارات لتغيير واقع المجتمع المصرى، وإعادة تشكيل عقول المصريين، وتم بناء آلاف المساجد والمستوصفات والمدارس بأموال هذا التمويل، وتم شراء عشرات الأقلام والأصوات الإعلامية لإعادة تشكيل الوعى المصرى.. وهو ما انطبق حرفيًا على حلفاء الإخوان الذين خرجوا من عباءة الجماعة الإسلامية فى جامعة القاهرة.. وسمعنا فيما بعد عن محاولات مختلفة من جهات متعددة لتحجيب الفنانات، وشراء الأفلام المصرية، واحتكار المطربين المصريين، لم تكن كلها بعيدة عن جماعة الإخوان والتمويلات التى تتلقاها، وبسبب السياسات الحادة للرئيس السادات نجد تمولًا مضادًا على الجانب الآخر، وقع فيه بعض من رفضوا سياساته، ووجدوا فى حكومات دول الرفض العربى ووسائل إعلامها مصدرًا سخيًا للتمويل والكسب المادى.. يرتبط ذلك بالإعلاميين الذين عملوا فى العراق وليبيا وسوريا أحيانًا، كما ينطبق على ظاهرة أكثر نبلًا وهى التطوع فى منظمة التحرير الفلسطينية ووسائل إعلامها التى لم تكن تعانى أبدًا من عوز مادى أو قلة فى التمويل.. والمعنى أن المثقفين المصريين فى السبعينيات كانوا عرضة أو هدفًا أو «لعل بعضهم سعى» للتمويل من دول مختلفة الاتجاهات والسياسات وإن كانت تشترك فى أن لديها فوائض من أموال النفط ورغبة فى التأثير فى المجتمع المصرى.. ومع سقوط الاتحاد السوفيتى وغزو العراق الكويت كان بعض قطاعات النخبة مع موجة جديدة من التمول باسم حقوق الإنسان.. حيث خلع الكثيرون قميص العمل السياسى والعداء للغرب الإمبريالى وارتدوا قميص النشاط الحقوقى.. ما ضمن لهم الصعود من حال الفقر والإملاق إلى قمة السلم الاجتماعى فى سنوات قليلة وكانت تلك عملية إفساد متكاملة الأركان اشترك فيها الجميع وتواطأ فيها الجميع.. وقد انتقلت هذه القابلية للتمول عبر أجيال مختلفة من النخبة وكأنها سر ينقله الأكبر للأصغر فرأينا الصحفى الذى يعقد صفقة مع الإخوان ليشتروا جريدته ويمولوها.. ثم يغير موقفه حين يبدو أن الرياح تنبئ بسقوط الإخوان أو أن هناك من يمكن أن يدفع أكثر للهجوم على الإخوان.. نفس هؤلاء المتمولين ترى بعضهم الآن على أتم استعداد للتمول ممن يدفع تحت أى شعار، سواء كان التنوير أو الدفاع عن أغانى المهرجانات!!! المهم أن توافق المعركة هوى من يدفع أو حتى من يمكن أن يدفع.. لقد ساهمت هذه النخب الفاسدة فى تضليل الشعب والمتاجرة بأحلامه واستنفاد طاقة المجتمع بتحقيق مصالحها الشخصية، وأثرى بعض أفرادها من الحرام السياسى والثقافى وأظن أن بعضهم ينطبق عليه وصف «الطابور الخامس» دون أى مبالغة إن لم تكن جرائمهم أحقر وأكثر فسادًا من جرائم الطابور الخامس.. والله أعلى وأعلم.