رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف يتأثر الاقتصاد المصرى بأزمة الطاقة العالمية؟

 

تضرب الاقتصاد العالمى أزمة طاقة منبعها انخفاض مُصطنع للعرض فى ظل ارتفاع مُبالغ فيه للطلب، حتى تجاوزت أسعار خام برنت مستوى ٨٥ دولارًا للبرميل، وهو أعلى سعر فيما يربو على ست سنوات، عندما لامس حدود ٨٧ دولارًا خلال أكتوبر ٢٠١٤، ويُتوقع لهذه الأسعار أن تكسر حاجز ٩٠ دولارًا قبل نهاية العام. تتزامن مع هذه الأزمة، معضلة تفشى فيروس كورونا التى تضرب العالم لعامين مُتواليين تقريبًا، وتحيط الاقتصاد العالمى بسحب كثيفة من عدم اليقين، تدفع بالمستثمرين إلى الإحجام- أو على الأقل التحوط بشدة- عن الاستثمار المُباشر وغير المُباشر فى الدول النامية والمُتقدمة على السواء، الأمر الذى أثر على جانب العرض، خاصة من المُنتجات الزراعية المُصنعة، فى مُقابل ضغوط على جانب الطلب بشكل يتجه إلى التعاظم، نتيجة توالى فتح الاقتصادات وتخفيف الإجراءات الاحترازية الموجهة ضد كورونا.

أفرز تضافر الأزمتين السابقتين ثلاث أزمات أخرى، أولاها لوجستية، حيث يُعانى قطاع النقل العالمى ضربات منبعها: بداية ارتفاع أسعار الطاقة، ثم عدم انتظام عمليات الشحن والتفريغ تحت ضغوط كورونا؛ ما سبب ارتفاع أسعار تأجير الحاويات -التى تُشحن البضائع داخلها- بمقدار سبعة أضعافٍ على الأقل مُنذ بداية العام، أما ثانيها: فيتمثل فى انخفاض الإنتاج الصناعى الناتج عن انقطاعات التيار الكهربى -فى ظل انخفاض المعروض وارتفاع الأسعار- فى مناطق التصنيع العالمية خاصة إقليم جنوب شرق آسيا، الذى يُخرج نحو خُمس الصادرات العالمية، وأخيرًا أزمة ارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل عام، خاصة الزراعية منها، نتيجة ارتفاع أسعار الأسمدة، الناتج عن ارتفاع أسعار الغاز الطبيعى، وارتفاع الطلب، وتضاعف أسعار النقل.

ولأن مصر تُعتبر مُستوردًا صافيًا للطاقة، إذ تجاوز الفارق بين وارداتها وصادراتها منها نحو ٢٫٣ مليار دولار فى عام ٢٠٢٠، كما تعتمد فى غذائها بشكل كبير على الخارج، حيث بلغت وارداتها من الحبوب، الخضروات، اللحوم والأسماك، فى ذات العام ما إجماليه ٩٫٥٧ مليار دولار، بنسبة ١٥٫٩٪ من جُل الواردات المصرية. كما تمتلك مصر على الجانب الآخر قناة السويس ومشروعًا قوميًا نشطًا للتحول إلى مركز إقليمى لتداول الطاقة، ما يعنى بالتأكيد أن ما يجرى فى العالم لابد له من انعكاسات سلبية وإيجابية على مصر واقتصادها ومشروعاتها على المديين القريب والمتوسط على الأقل.

أولًا - انعكاسات سلبية

تنبع الانعكاسات السلبية لأزمات الاقتصاد العالمى على مصر جميعها من الاعتماد الخارجى للاقتصاد المصرى على واردات الطاقة والغذاء المتنامية، بسبب اتساع الفجوة فى كليهما بين الإنتاج والطلب المحلى، حيث يشهد الطلب على الغذاء ارتفاعًا مستمرًا، مدفوعًا بالزيادة السكانية الدائمة، حيث نمت زيادة السكان فى المتوسط خلال السنوات العشر الماضية بنسبة ٢٫١٪ سنويًا، فيما تنمو المساحة المزروعة بشكل أبطأ بسبب التكلفة الباهظة لاستصلاح الأرض التى تبلغ وفقًا لمتوسط التقديرات ٢٠٠ ألف جنيه للفدان، بالإضافة لمحدودية الأراضى الزراعية والتعدى عليها بالبناء، بما يرفع سنويًا الكميات المطلوبة من القمح المُستورد ويتوقع أن ترتفع فى عام ٢٠٣٠ إلى ١٥٫٥ مليون طن من ١٢٫٩ مليون فى متوسط الفترة ما بين ٢٠١٨-٢٠٢٠، وذلك رغم الارتفاع المُتوقع للإنتاج من ٨٫٧ مليون طن إلى ١٠٫٤ مليون، تنطبق هذه الزيادة على مُعظم السلع الغذائية، ما أدى إلى ارتفاع تكلفة استيرادها من ٧٫٨٨ مليار دولار فى ٢٠١٦ إلى ١٠٫٩٣ مليار فى ٢٠١٩، قبل أن تنخفض فى ٢٠٢٠ تحت تأثير كورونا، كما سبقت الإشارة.

الأمر ذاته دون اختلاف كبير تعانى منه مصر فيما يخصُ واردات منتجات الطاقة على الرغم من الاكتشافات البترولية المُتوالية، والتى لا تكاد تتوقف، بل وفى ظل كون قطاع النفط والغاز أكبر القطاعات الاقتصادية المصرية جذبًا للاستثمار الأجنبى المُباشر، حيث كانت قد بلغت الواردات البترولية فى عام ٢٠١٦ ما قيمته ١٠٫٨ مليار دولار، لترتفع بحلول ٢٠١٩ إلى ١١٫٠٦ مليار دولار.

فى المُعتاد يضغط البندان على الموازنة العامة وميزان المدفوعات، ليُسببا واحدة من أسوأ الأمراض الاقتصادية على الإطلاق، والمعروفة بتوءمة العجز، الذى يستنزف الاحتياطى النقدى المصرى دوريًا، ويضع ضغوطًا جمة على سعر صرف الجنيه فى مواجهة الدولار. حيث تتضاعف هذه الضغوط لتبلغ عنان السماء فى ظل الأزمات السابقة، حيث تُعانى القطاعات الاقتصادية المولدة للعملة الصعبة وأخصها السياحة حاليًا، وقريبًا الاستثمارات الأجنبية غير المُباشرة. لذلك بدأنا نشعر فى الوقت الحالى بتحرك سعر صرف الجنيه بشكل ضئيل وغير محسوس فى اتجاه التراجع، رغم ما تبذله الحكومة والبنك المركزى من جهود مشتركة لتوفير الاستقرار النقدى فى السوق.

ثانيًا – تجليات إيجابية

ارتفاع أسعار النفط، رفع أهمية قناة السويس للدرجة القصوى فى الوقت الحالى، فارتفاع أسعار النفط منع الناقلات من المرور بطريق رأس الرجاء الصالح، الذى ينتعش المرور به مع انخفاض أسعار النفط، حيث تفضل الناقلات تحمل تكلفة الوقود الزائد بسبب طول الرحلة على دفع رسوم المرور بالقناة، كذلك أسهمت فى دفع هذا الاتجاه المُعضلة اللوجستية التى يشهدها النقل البحرى، حيث ارتفع زمن الرحلة من شنغهاى فى الصين إلى روتردام فى هولندا من أربعين يومًا إلى نحو ٥٥ يومًا، وهو ما يُضيف إلى تكلفة النقل من ناحية ويُصعب إيجاد الحاويات المطلوبة للشحن من ناحية أخرى، وتزامن مع المعضلتين رفع الطلب بشدة على قناة السويس تفاديًا لتحمل تكلفة الوقود، وتأجير الحاويات.

لذلك أعلنت قناة السويس يوم ٢٩ سبتمبر، عن تسجيل رقم تاريخى كأعلى مُعدل مُرور يومى فى قناة السويس، بما يُعادل ٨٧ سفينة، وهو مُعدل يبلغ ضعف المتوسط عند مستوى ٤٥ سفينة قبل القناة الجديدة، هذه المُعدلات القياسية، دفعت بإيرادات القناة إلى الارتفاع رغم تراجع التجارة الدولية، حيث حققت نسبة زيادة بمقدار ١١.٦٪ لتبلغ ٤.٠٩ مليار دولار فى الثمانية أشهر الأولى من ٢٠٢١، مقارنة مع ٣.٦٦٦ مليار دولار فى الفترة نفسها من العام الماضى.

لا تتوقف الإيجابيات عند القناة، بل إن أكبرها على الإطلاق هو تعظيم قيمة مصر كمركز إقليمى لتداول الطاقة، حيث تحفز أزمات الغاز أوروبا فى اتجاه البحث عن مصادر بديلة للطاقة بعيدًا عن روسيا، وقد حفز ذلك عددًا من المشروعات التى لم يُكتب لها النجاح سابقًا مثل خط غاز Nabucco الذى كان يستهدف نقل الغاز من إيران، والعراق وأذربيجان عبر تُركيا إلى أوروبا، بتكلفة ١٣ مليار دولار وقت اقتراحه فى عام ٢٠١٠، فى أعقاب أزمة قطع الإمدادات الروسية خلال شتاء ٢٠٠٩ لمُدة أكثر من ٢٠ يومًا، لذلك نتوقع ذات السلوك الأوروبى، مع استبعاد تُركيا التى تبدو الآن شريكًا لا يُمكن الوثوق فيه، فى ظل وجود مصر التى أثبتت موثوقية وإمكانية الاعتماد عليها، سواء فى مجال نقل الغاز أو الكهرباء لاحقًا إلى أوروبا.

لذلك ستسعى السُلطات الأوروبية لتدشين مشروع أوروبى لزيادة المُتاح من احتياطيات الغاز فى حوض البحر المتوسط، خاصة فى ظل وجود توقعات قوية من هيئة المسح الجيولوجى الأمريكى بوجود كميات ضخمة من الغاز تبلغ ٢٧٠ تريليون م٣ من الغاز، لم يُكتشف مُعظمها حتى الآن، لذلك على الأوروبيين زيادة أنشطة البحث والتنقيب فى الحوض، لدى الدول الخمس المُتوقع وجوده داخل حدودها وهى مصر، ولبنان، وإسرائيل، وقبرص واليونان، مما يرفع الكميات المُتاحة للتصدير، سواء عن طريق الأنابيب مُباشرة فى حالة اكتشافه داخل الحدود القبرصية أو اليونانية، أو عن طريق التسييل فى حالة اكتشاف مزيد منه لدى مصر أو إسرائيل.

كذلك سيجرى الدفع فى اتجاه زيادة قدرات الطاقة المصرية المنقولة إلى أوروبا، والذى يُعتبر الحل الأكثر عملية وقدرة على تحقيق هدف تأمين قدرات دائمة من الطاقة، حيث تمتلك مصر فى الوقت الحالى نحو ٢٦ جيجا وات من فائض القدرة، ويُمكن تصدير نحو ٢٠ جيجا وات فورًا منها فى حالة الربط بين الشبكتين الأوروبية والمصرية، ويجرى العمل فى الوقت الحالى على ربط الشبكة المصرية بالقبرصية ومن ثم اليونانية بخط بقدرة ٣ جيجا وات، يُتوقع الانتهاء منه فى عام ٢٠٢٣، كذلك يُمكن الربط بين الشبكتين المصرية واليونانية بخط آخر بذات القدرة بما يجعل القدرات المنقولة نحو ٦ جيجا وات.

من جهة أخرى يُمكن زيادة فائض القدرة المصرية عبر ضخ مزيد من الاستثمارات فى قطاع الطاقة المُتجددة المصرى الواعد، والذى يتوقع منه إنتاج ٩٠ جيجا وات بحلول ٢٠٣٥ أو نحو ٤٢٪ من إجمالى القدرة المصرية، فى ظل الخطط الحالية، وهى خطط يُمكن تطويرها فى حال وجود رغبة أوروبية حقيقية، وأخيرًا يجب على الأوروبيين الدفع فى اتجاه تسريع للربط بين الشبكتين المصرية والخليجية عبر البحر الأحمر، بما يجعل جزءًا معتبرًا من قدرات الشبكة الخليجية مُتاحًا لها عند الضرورة.

وقد بدأت تجليات هذه الإيجابيات فى الظهور، بعدما رشحت أخبار عن اتجاه وزير الكهرباء المصرى يوم الخميس المُقبل، لتوقيع اتفاقية مد الشق الثانى من الكابل البحرى الذى يربط مصر بقبرص، بحيث يصل الشبكة القبرصية باليونانية، وذلك فى دفع سريع فى اتجاه الربط الثلاثى بين الدول الثلاث.

لابد أخيرًا من الإشارة إلى أن المُعضلات اللوجستية التى تضرب العالم ستُحفز عددًا ليس بقليل من الشركات والمصانع لهجران الشرق الأقصى، ونقل مصانعها إلى الجوار الأوروبى، سواء فى شرق أوروبا أو عبر المُتوسط، خاصة مع الدول التى ترتبط مع الاتحاد الأوروبى باتفاقيات تبادل تجارى حُر، ما قد يُشكل دفعة قوية للصناعة المصرية التى ستستفيد من نقل التكنولوجيا، ومزايا الاستثمار الأجنبى المُباشر الأخرى.

مُدرس الاقتصاد بكلية النقل الدولى واللوجستيات

الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحرى