رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العين السحرية لحسن عبد الموجود

هناك روايات تنتهي بعد قراءتها مباشرة، أو بمعنى أوقع تمسي فكرة مجردة، وروايات أخرى تنطفيء مع الوقت مع تغيّر عوالمها وتفاصيل أحداثها، وروايات ثالثة تظل مضيئة إلى أن يخبو تأثيرها فتذهب مع خط الزوال، خصوصا تلك التي ترتبط بحادثة أو تاريخ ما فقد رونقه؛ تجاوزته الأفكار وفارقه الواقع فما عاد لذكره جدوى، وإذا ما أعدنا قراءة رواية من هذا النوع بعد مفارقتنا للحدث أو بعد سنوات من الوقت التي كتبت فيه لا نجد فيها ذلك السحر الذي حققته أول مرة، بينما هناك روايات تظل متجددة، ترتبط بوجدان الناس، وتتفاعل مع قضاياهم، وتحفظ مكانتها بسحرها السردي؛ الفكرة الجادة وقوة المضمون وطريقة التناول، وحتى لو مرت عقود على زمن كتابتها تظل حيوية متفاعلة، وكأنها تقاوم شيخوخة موضوعها إن بهت؛ فماذا لو كانت القضية التي تناولتها ما تزال قائمة؟
رواية "عين القط" تنتمي إلى تلك الروايات الحيوية؛ فرغم مرور نحو 20 عاما على صدورها عن دار ميريت، كأول عمل روائي للكاتب حسن عبد الموجود، استحقت طبعة جديدة، صدرت عن دار بتانة في مطلع 2020، وتستحق قراءات جديدة ليس لأن موضوعها قائمًا وحسب، إنما لما تحمله من عناصر سردية تجعلها صامدة وممتعة مع كل قراءة.
رواية ممتدة رغم الحراك الاجتماعي
الرواية تتناول أحوال قرية من خلال عين قط، القرية تمثل حال كل قرى جنوب الصعيد، وتنطلق في ذلك من أسطورة "البسس"، أو تحوّل مواليد التوائم إلى قطط أثناء النوم، وهي أسطورة راسخة في المعتقد الشعبي المصري، ولها تجليات حية في مجتمع الصعيد؛ حيث تتلبس روح التوأم الأصغر جسم قط، تسري به إلي حيث تشاء؛ البيوت والشوارع والغيطان، فيرى القط الكثير من الأسرار الصغيرة والكبيرة التي يمارسها مجتمع القرية من رجال ونساء وأطفال، حتى أنهم يطلقون عليه لقب "بس"؛ يمتلك قدرات القطط ومقدراتها أيضًا؛ يتسلق الحوائط ويسرح في الغيطان والمنازل، ويعاني من مطاردات الجميع خصوصًا ربات البيوت؛ وكما يتأذى من تلك المطاردات وتظهر أثارها في جسمه عندما يصحو، يكون مصيره- وفقًا للأسطورة- الموت لو أن أحدًا لمسه أثناء نومه، لذا تحظر الأم ايقاظ ابنها "البس" باللمس.


وذلك الإطار الكبير والثري لتلك "الأسطورة وتجلياتها" كان يسمح للكاتب أن "يصنع منها سفرا كبيرا"؛ وفقا لما ذكره المؤرخ كمال مغيث، في حفل توقيع الطبعة الثانية، أو يُغري مبدعها بإضفاء "عوالم سحرية وغرائبية مدهشة"؛ بحسب الشاعر والناقد شعبان يوسف، لكن الكاتب حقق كل ذلك في نوفيلا قصيرة، عبر "استراتيجية سردية" استطاع بها تناول ما تمور به القرية في سياق يفضح ازدواجية المجتمع وتحولاته، وكيفية خفوت منظومة القيم الإنسانية في عالم القرية. 
التحرر من سطوة الأسطورة
ورغم أن "عين القط" هي التجربة الأولى للكاتب في فن الرواية ألا أنه لم يستسلم لإغراء الأسطورة وسطوتها، بل وظف بذكاء عناصر محدودة منها لخدمة السرد وحسب؛ كان يعي جيدًا أنه بصدد كتابة رواية وليس كتابًا في الأنثروبولوجيا، لذا نستشف في طرف من روايته القصيرة المسار التاريخي لقريته، وفي طرف آخر قيم ومعايير مجتمعها، ونتتبع في طرف ثالث السياقات التي يسبح فيها شخوص القرية، دون أن نغرق في العلم والتاريخ وكتب الفلسفة.
من خلال مدخل مختزل حث الكاتب قارئه على تتبع سيرة الرواي؛ بعين طفل، والتفاعل معه في معايشة أحوال ناس القرية، وحقق لروايته سحريتها الخاصة التي تجلت في "السرد"؛ إذ وظف آليات متعددة؛ يأتي في مقدمتها "الحبكة المتقطعة؛ حيث لا يوجد خط تاريخي للتدرج إلى ذروة الحكاية"، بل إن الراوي يقودنا إلى أقصى الحكاية دون تسلسل خطي للأحداث أو تتابع تاريخي للحكايات، وكأنه يُلقي بنا صعودًا وهبوطًا في التجربة، ما يجعل القارئ مشدودا لاكتشاف دلالة الحكاية؛ لا الحكاية نفسها. 


كما وضعنا نحن القراء في قلب الحكايات عن طريق إيهامنا بحالة حكي تلقائي و"متباسط"؛ اختيار الروي من خلال عين ولسان طفل صغير، فذاكرة الأطفال في المراحل الأولى من العمر هي ذاكرة صور، ولذا اعتمد حسن عبد الموجود اللغة المجردة؛ المفارقة للغنائية الشعرية، المصفاة من الزخارف والتقعير والمفردات الغليظة، وشكَّل عبر استخدام الجمل القصيرة ذات الإيقاع السريع لوحات قلمية مؤثرة، ليقف على جوانب عديدة في ترسيم الشخصية القروية منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية الثالثة.
تلك اللوحات تعكس في تماوجها كيفية خفوت القيم الإنسانية في عالم القرية؛ قياسا على فكرة التباين بين الضوء والظلام، وبما ترمي به من دلالات الغموض والوضوح؛ حيث ممارسات الليل تختلف تماما عن ممارسات النهار، ويتكشّف ذلك عبر التحرك في المنطقة الرمادية التي تتعايش خلالها القطط؛ فالقطط أكثر الحيوانات تعايشا مع الظروف؛ بسبعة أرواح كما في المعتقد الشعبي، و"نفرية" أي أنها (تجمع رد الفعل والفعل في حركة واحدة) حتى إن العلماء احتاروا في تباين سماتها؛ من جراء تحولاتها العشوائية في الألفة والتنمُّر. ونلتمس في ذلك الربط بين عالم القطط وعالم البشر طريقة الكاتب في تناول موضوعه؛ وكأننا في عالم مواز؛ نرى فيه الناس تهرب من مشاكلها الواقعية لتعيش في عالم ميتافيزيقي.
الغفير"حناوي" عضو أساسي في تدمير القيم 
استطاع حسن عبد الموجود بجدارة توظيف سمات القطط وعالمها لصالح السرد، فلم يكن اختياره حسن لـ"العين" عشوائيا، بل لما تحمله من خصائص؛ أبرزها أنها عين مقعرة ترى من جميع الزوايا، وحذقة تلتقط التفاصيل بطريقة سريعة ومختزلة، وهي أيضا معادل للعين السحرية التي تحمل دلالات الاستطلاع والتلصص؛ وكأن الكاتب أحاط القرية بسياج كبير أو وضعها خلف باب ضخم، وبعين متابع رصد تفاصيلها الخاصة، وقدمها كحالة صور تنعكس على عين الراوي ليراها القارئ بعينيه. 


ورغم مرور نحو عشرين عاما على صدور الرواية في طبعتها الأولى، إلا أن القضية التي طرحتها ونبهت إليها آنذاك ماتزال قائمة حتى وقتنا هذا؛ فالصورة التي كان يجدر بنا معالجتها، أهملناها- وللأسف- ظلت متفاعلة، حتى أن شخصية غفير القرية "حناوي"- وهي شخصية محورية في الرواية- مازالت تمثل نموذجا داخل النسق الذي نعيش فيه، فهو عضو رئيسي يتكرر في سياقات مجتمعنا منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن؛ "حناوي" هو خليط من الشخصيات يرتكب أفعالا مؤثرة بـ"قصد أو دون ذلك"؛ يثير الفتن ويحض على التمييز والتعصب ويشجع الطائفية ويروج المخدرات ويزور الانتخابات، ويجمع سمات الأشخاص الذين يمتلكون "ثقة الجاهل"؛ حيث إدعاء "العلام والمعرفة" مع "المكابرة والفشخرة"، ويراه أهل القرى في "الشوضلي، والمسلبط، والفهلوي، وعبيط القرية"، وفي بعض قرى الصعيد يختزلونه في لقب "شُخرُم"؛ ويتهكمون عليه في المثل الدارج (رخصت يا كيف.. وبيشربك شخرم)، ويمتد الأمر حاليا لينطبق على الشخصية المتثاقفة. 
وتكشف "عين القط" أن السخرية هي الفعل الوحيد- للأسف- تجاه نموذج "حناوي"، حيث لا يدينه المجتمع إدانة كاملة؛ فقط يتهكم عليه ويسخر منه بلسان الأطفال، بينما يسمح له بالتواجد والتفاعل. وبقدر قبول المجتمع له تستخدمه السلطة؛ سواء المجتمعية أو السياسية لتحقيق أغراض فاسدة. 
الرواية تضعنا أيضًا في مأزق يتمثل في النظر إلى "نموذج حناوي" كحالة "إشكالية"؛ ما بين كونه جانيا من ناحية ومجنيا عليه من ناحية أخرى، لتظل شخصيته بكل ما تحمله من دراما بمثابة سؤال مفتوح، وإدانة كاملة للنظامين السياسي والاجتماعي.
"عين القط" رواية باقية تعتمد "التلصص" كاستراتيجية للتعبير عن واقع كسيح لمجتمع يرزخ في الخرافة والجهل والعنجهية، وليس لديه إرادة التحرر من التخلف.