رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التقاه صدفة.. طلعت شاهين يروي حكايته مع يوسف إدريس

الدكتور طلعت شاهين
الدكتور طلعت شاهين

قص الدكتور طلعت شاهين المترجم والأديب، حكايته مع يوسف إدريس، وكيف التقاه صدفة وجلس إلى جواره بمقعد ريش.

يقول طلعت شاهين:" نشأ جيل السبعينيات في مناخ مليء بالزخم الثقافي على الرغم من ضربة هزيمة يونيو القاصمة، لذلك يتسم هذا الجيل بالاطلاع الواسع في كل مجالات الإبداع البصري والمكتوب أو مشاركا في معظم فعاليات هذا الإبداع، وكانوا يرون أن أي كتابة أو لوحة أو كلمة أو نغمة موسيقية يمكن أن تكون مصدرا ورافدا يغذي إبداعهم فلم تكن تقتصر ثقافتهم على نوعية إبداعهم، فلم يكن الشاعر يقرأ في مجال الشعر وحده بل كان على ثقافة كبيرة في مجالات السينما والمسرح والقصة والرواية والفن التشكيلي، وكان منهم من يمارس كتابة القصة أو الرواية أيضا، كان من النادر ألا ترى شاعرا أو كاتب قصة أو فنانا تشكيليا ليس عضوا في نوادي السينما المتعددة التي كانت منتشرة في السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات إلى درجة أن نادي السينما كان يعقد ثلاث حفلات أسبوعية ليتيح لأعضائه فرصة الفرجة ما بين قاعة ايوارت بالجامعة الأمريكية أو قاعة مبنى بنك مصر الشهيرة، أو جمعية الفيلم وجمعية نقاد السينما. أو لا يحضر عروض مسرح الطليعة أو مسرح الغد وحتى مسرح الثقافة الجماهيرية؛ خاصة في مهرجاناتها التي كانت تمتد أحيانا لأشهر عديدة، أشهرها مهرجان الفرق القومية بمسرح السامر الذي أطلق عليه الدكتور سمير سرحان وقتها "مهرجان الميت يوم".

وأضاف لـ"الدستور": "ولأني كنت أقضي خدمتي العسكرية على جبهة قناة السويس في الفترة من عام 1970 إلى 1974 كنت أحاول أن أتابع ما أمكنني ما يصدر من أعمال أدبية وكثيرا ما كنت أعود من أيام الإجازات القليلة محملا بالكثير من الأعمال التي اشتريها من سور الأزبكية أو أستعيرها من بعض الأصدقاء، وكان لديّ شغف وقتها بالقصة والرواية والمسرح رغم أنني كنت أكتب الشعر، وكان الرائج وقتها الأدب الروسي الذي كان أرخص الكتب خاصة الصادرة عن دار "التقدم"، قرأت ترجمات سامي الدروبي وروايات الحكيم ونجيب محفوظ، وأتاحت لي علاقتي بالراحل يحيي الطاهر عبد الله أن أتعرف على العديد من جيل الستينيات وقرأت كل ما كتبوه تقريبا، وإن كانت مجموعات يوسف إدريس القصصية الأكثر جذبا، لأن القصة القصيرة كانت الأنسب للقراءة خلال فترة الخدمة العسكرية، لكني لم أحاول الاقتراب الشخصي منه عندما كانت تتاح لي الفرصة، وهي كثيرة، خلال بعض الفعاليات الثقافية لأنه لم يكن مجرد كاتب متميز وعبقري في القصة القصيرة؛ بل كان نجما لامعا اجتماعيا وسياسيا تدور من حوله حكايات أقرب إلى الأساطير.

وتابع: "هذا الاهتمام الواسع بالثقافة كان يفرض عليّ أن أقضي إجازاتي التي كانت خمسة أيام كل خمسة وثلاثين يوما، فكنت أقضيها تقريبا في تنقل محموم بين تلك الفعاليات من ندوات أدبية وقراءات شعرية وسينما ومسرح وفن تشكيلي، في إحدى تلك الإجازات عام 1972 بدأت برنامجي صباحا بالذهاب إلى جريدة المساء، كنت أكتب في صفحتها الثقافية بانتظام بفضل راعي الأجيال الكاتب الراحل عبد الفتاح الجمل، ثم الذهاب إلى ماسبيرو مقر البرنامج الثاني بالإذاعة للاتفاق على تسجيل بعض القصائد مع الإذاعي كمال ممدوح حمدي أطال الله في عمره، أو تسليم الراحل شوقي فهيم مقالا أو عرضا لكتاب لبرنامجه "جولة الأدب"، بالطبع إضافة إلى تحصيل المقابل المادي لما يذاع خلال وجودي في الجبهة، جنيهات قليلة لكنها في ذلك الوقت كانت تساوي ثروة مهمة، ثم مشاهدة عرض نادي السينما في قاعة بنك مصر في الثالثة عصرا لأتفرغ بعدها للتجول بين الأصدقاء في ندوات أدبية أو للقاء البعض في بيوتهم".

وواصل: "في إحدى تلك المرات أنهيت تلك المشاوير مبكرا فذهبت في حوالي الواحدة ظهرا إلى مقهى ريش لأستريح قليلا استعدادا لحفلة نادي السينما، كان المقهى شبه خال فجلست في الممر المؤدي إلى مقهى زهرة البستان، طلبت شايا كعادتي وهو أمر لم يكن يراه عم ملك الجرسون حسنا لأن عدم طلب البيرة يعني عدم وجود بقشيش مغري، إلا أنه في ذلك اليوم سبقه إلى طاولتي "فلفل" الجرسون الأسمر النوبي، بعد أن جاءني بالشاي وقف يتحدث معي قليلا إلى أن دخل الممر يوسف إدريس بقامته المهيبة، ورغم أن معظم الطاولات كانت خالية إلى أنه توجه إلى الطاولة التي أجلس إلى جوارها وسحب الكرسي المقابل وجلس مشيرا إلى فلفل بيده، الذي أسرع في إحضار فنجان القهوة".

دون سلام أو كلام سألني مباشرة "اسمك إيه؟"، بعدها جاء السؤال التالي "أنت من فين؟". قبل أن أجيب جاء السؤال الثالث "بتكتب إيه بقى؟".

عندما أخبرته أنني صعيدي من قنا وأكتب شعر الفصحى مال نحوي بعينيه الملونتين ضاحكا وقال: "يعني مش شعر عامية زي الأبنودي ولا قصة قصيرة زي يحيى الطاهر عبد الله، تكتب شعر فصحى، مش كفاية علينا أمل دنقل؟"

ودون أن يطلب مني سماع شيء مما أكتب، أو الاطلاع على بعض ما أكتب بدأ يقص عليّ حكايته مع يحيى الطاهر عبد الله.

 قال: في يوم من الأيام جاء إلى مكتبي بمجلة الكاتب شاب أسمر نحيل وقدم لي نفسه بكل ثقة: "أنا يحيي الطاهر عبد الله كاتب قصة قصيرة".

طلبت منه أن يطلعني على الأوراق المكتوب فيها بعض تلك القصص فإذا به يتلوا عليّ قصة بلغة فصحى تثير الدهشة، بتمكن من يلقي قصيدة شعرية محفوظة عن ظهر قلب، ما أن انتهى حتى وضعت أمامه بعض الأوراق الدشت وقلما وطلبت منه أن يكتب ما تلاه عليّ في الحال. كانت الدهشة الأكبر أنني عندما قرأت ما كتب لم أجد اختلافا ولو طفيفا بين ما سمعت وما هو مكتوب بين يدي. 

واستطرد: "طلبت منه أن ينتظر نشر القصة في العدد التالي من مجلة الكاتب وكانت قصة يحيي الطاهر عبد الله "محبوب الشمس" في العدد بتقديم كتبه يوسف إدريس يبشر فيه بهذا الصوت الجديد القادم من أعماق الصعيد بخصال جديدة تماما على الحياة الثقافية المصرية.

وظل يحدثني عن يحيى الطاهر عبد الله لما يزيد عن النصف ساعة، كان الحديث يتخلله إشارات إلى أمل دنقل والأبنودي، بالطبع مع قفشات سريعة منه حول احتلالهم مقاعد بارزة في الصف الأول من الحياة الإبداعية في مصر، استمر حديثه متدفقا دون أن يمحني الفرصة ولو بمجرد التعليق على ما يقول، تحدث كثيرا وخاض في موضوعات شتى إلى أن توقفت سيارة بالقرب مقهى ريش؛ تجلس على كرسي قيادتها فتاة جميلة، أشارت بيدها فوقف يوسف إدريس مناديا على فلفل الجرسون، وضع في يده ورقة مالية أعتقد أنها كانت ربع جنيه، ثم تحول نحوي قائلا "وأنت بقى جاي علشان تكمل احتلال الصعايدة للحياة الثقافية في مصر"، وانطلق نحو الفتاة الجميلة دون أن ينتظر الجواب.