رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف صور الشاعر الفرنسي تيوفيل جوتييه الطقوس الجنائزية ومهابة الموت في مصر؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

رغم كراهيتهم للموت وعشقهم للحياة فملئوها بهجة وبناء وحضارة دامت آثارها حتى يومنا هذا رغم مرور أكثر من 7 آلاف عام، إلا أن أجدادنا المصريين القدماء تعلقوا بالحياة مرة أخرى بعد الموت وأمنوا بعقيدة البعث، حتى أنهم اتخذوا للموت إلهة من بينها أوزوريس، وأنوبيس وغيرها.
 

 وقد لاحظ الرحالة والمستشرقين الأجانب الذين مروا بمصر، ومنهم من استقر فيها لفترة طويلة من الزمن يرصد ويستكشف الحياة في مصر وطبيعة المصريين، ومن بين هؤلاء الرحالة الشاعر الفرنسي تيوفيل جوتييه وهو أحد أعمدة التيار البرناسي في الشعر الفرنسي، وأحد أعمدة الرومانتيكية الفرنسية والداعين إلى تجاوزها في آن معا، وكان شاعرا وروائيا وقاصا وكاتبا مسرحيا وناقدا، ومن أهم مجموعاته الشعرية ملهاة الموت، ومزججات وأحجار منقوشة، أنعش الأدب السردي ومده بأبعاد غرائبية خيالية جديدة من خلال قصص الفانتازيا، كما لمع بقصص رحلته إلى مصر والتي ترجمها من الفرنسية محمد بنعبود وصدرت عن مشروع كلمة للترجمة بدولة الإمارات العربية المتحدة.
 

- تقدير المصريين للموت ومهابته في نفوسهم


يتطرق تيوفيل جوتييه في كتابه رحلة إلى مصر، إلى تقدير المصريين للموت ومهابته في نفوسهم، حيث يذهب إلي أنه: لا أمه انشغلت بالموت كما انشغل به المصريون القدامى. لذلك كان على الموت أن يحتل المكانة الأولى والأكبر في كتاب تاريخ الدفن والشعائر الجنائزية عند الشعوب القديمة ل إرنست فيدو. إنه لمشهد غريب إعداد هذا الشعب لقبره منذ ولادته، رافضا أن يتحول إلي غبار ومنافحا ضد التبدد بعناد لا يخور. كانت الأجيال المصرية القديمة كمثل طبقات طمي النيل التي تضاف بعضها إلى بعض منذ أزمنة سحيقة، تترتب بانتظام في عمق المقابر تحت أرضية والأهرام ومدن الأموات، بشكلها غير الناقص، والذي لا يجرؤ دود القبر على مهاجمته، مصدودا بالروائح الحادة، ولولا تدنيس الإنسان وما يقوم به من إتلاف لكان أمكن العثور على هذا الشعب من الموتى كاملا، ولكانت أعداده الغفيرة قد غطت الأرض. إن الخيال المرعوب ليرجع القهقرى أمام حساب هذه الأعداد المحتملة. ولو كانت الحضارة المصرية القديمة دامت عشرة قرون أخرى لكان الموتى قد طردوا الأحياء من أرضهم، واجتاحت المقابر المدن، ولكانت المومياوات الخشنة في أقمطتها قد أسندت إلي جدران المساكن.

- الممارسات الجنائزية وقبور المصريين
 


ويلفت تيوفيل جوتييه في كتابه رحلة إلى مصر أن إرنست فيدو لم يهمل أي شيء من الممارسات الجنائزية وقبور المصريين، فهذه الدراسة التي لا تقل عن المائتين صفحة والمصحوبة بأربعين رسما منجزة بطريقة رائعة بقدر ما هي مثيرة للفضول لكونها لم تنجز اعتمادا على كتب، (لم يترك المصريون سوى بضع أوراق بردي يصعب بهذا القدر أو ذاك فك شفرة معانيها)، وإنما اعتمادا على المآثر وحدها وعلى الآلاف من الرسوم التي فحصت بانتباه شديد التدقيق، وقورن بعضها ببعض وأخضعت لنقد صارم.

 وتابع قائلا، إن المصريين لحسن الحظ قد نقشوا (وهو عمل جبار يبلبل الفكر) بالهيروغليفية علي جدران القصور والمعابد، وعلي أخشاب بوابات الهياكل الفرعونية الضخمة وجدران الأروقة والصالات الجنائزية، وعلي جنبات النواويس والمسلات وعلي الأغطية والتلفيفات الداخلية للمومياوات، أي على كل ما كان يوفر مساحة صقيلة وكذلك في الصخر والجبس والبازلت وحجر السماق، أقول نقشوا بخط لا يمحي، وصبغوا بألوان لم تستطع سلسلة طويلة من القرون أن تتلفها، مشاهد تعثر فيها بتفاصيلها كلها، على أنماط السلوك والملابس والمناسبات الاحتفالية لأقدم حضارة في العالم. يبدو كأن الشعب الغريب والملغز كان قد استشعر العنت الذي سيجده الخلف في قراءة هذه الرموز الهيروغليفية، فأحال ترجمتها علي الرسوم وأسر للنواويس بالنشر الذي يحتفظ به ورق البردي.

-  دقة الرسم والتصاميم



وفي موضع آخر يقول تيوفيل جوتييه في كتابه رحلة إلي مصر، أن أبهة الملوك والانتصارات واستيفاء الضرائب وكل حوادث الحياة العسكرية والأشغال الفلاحية ورحلات القنص والصيد، والولائم وحفلات الرقص والأسرار الحميمة للخدور، هذا كله تم التعبير عنه في هذه الرسوم التي لا تنتهي، بخط شديد الصفاء، إلي درجة أن الفروق السلالية وتعدد أنواع العربات والأسلحة والترتيبات والأثاث والأواني والأطعمة والنباتات وأشكالها لا تزال تميز فيها حتي الآن، أكيد أن بإمكان صانع آلات موسيقية أن يعد قيثارا أو ربابا أو مزهرا، انطلاقا من مثيلاتها التي يعزف عليها الموسيقيون في هذه المأدبة الجنائزية المرسومة في أحد قبور مدينة موتي طيبة.

 إلا إن نموذجا لعربة تجرها الكلاب مرسوما في تصميم عربة حديثة لن يكون مرسوما بطريقة أكثر دقة من شكل العربة التي نراها في الموكب الجنائزي لكاتب أمينوفيس الثالث، ملك الأسرة الثامنة عشرة.