رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مريرة ومليئة بالجروح».. هكذا كانت طفولة يوسف إدريس

يوسف إدريس
يوسف إدريس

"عندنا أقارن هذه الطفولة بطفولة ابنتي أو أولاد الناس الآخرين حتى أولاد الفلاحين، أجدها كانت طفولة مريرة جدا ومليئة بالجروح، ففي كل حركة من حركاتي كنت أجد جروحا".. هكذا وصف الأديب الراحل يوسف إدريس طفولته، والتي رغم معاناته منذ كان طفلا وعمره 8 سنوات، بعدما انتزع من عائلته ليعيش مع جدته حتى يصبح قريبا من المدرسة الابتدائية، إلا أنها ساهمت في تكوين شخصيته.

وفي حوار له بمجلة "الهلال" بعددها رقم 9 والصادر بتاريخ 1 سبتمبر 1986، استرجع ذكرياته في مرحلة الطفولة قائلا: كنت أستيقظ في الخامسة صباحا في الشتاء البارد جدا، وأجهز نفسي للذهاب إلى المدرسة، ولن تكن هناك أم شابة ترعاني، ثم أمشي من الساعة السادسة إلى الثامنة 4 كيلو مترات في طريقي إلى المدرسة، مشيرا إلى أن البرد كان يجعله ينكمش على نفسه، وأحيانا كان المطر وعادة كان يصل إلى المدرسة قبل أي تلميذ من المدينة خوفا من التأخير، وكان يصل في حالة يرثى لها، حذاؤه عليه أكوام من الطين، وملابسه مبللة، ثم يجيء المدرس في الطابور يفتش على الأحذية.

وتابع: وأذكر أنه كان مدرس اللغة الإنجليزية وكان اسمه الأستاذ السباعي، وكان أنيقا جدا، كانت ملابسه أنيقة وحذاؤه يلمع لمعانا غريبا، يجيء هذا الرجل الأنيق ويفتش علينا، فيكون أسوأ تلميذ في هندامه.. أنا.. كل يوم وأضرب في الطابور لأن ملابسي متسخة، وظللت أرجو والدي أن يعطيني أجرة القطار لكي أذهب وأرجع به، ولكنه كان خائفا، ويتصور باستمرار أنني سأقع تحت عجلات القطار وأموت، حتى عندما كنت أسير على السكة الزراعية، كان يطلب مني أن أسير في الجهة البعيدة عن جسر القطار، فهو يخاف إما أن أطلع أنا على الجسر أو يخاف أن ينزل بي القطار على السكة الزراعية.

في هذه الطفولة؛ كان يشتهي يوسف إدريس أن يتناول الطعمية لكنه لا يستطيع، لأنه كان يحصل على "تعريفة" في اليوم، مع أنه من مستوى اقتصادي مرتفع على حسب وصفه، فوالده كان مفتشا زراعيا، ولكن عندنا ذهب إلى جدته كانت فقيرة جدا فهبط مستواه الاقتصادي، واستطرد خلال الحوار قائلا: كنت طفلا لا تسلية له إلا اللعب مع الأطفال وقت الغروب، يلعب بعض الألعاب الساذجة مع أطفال الفلاحين الغلابة الذين كان لديهم مرح الأطفال وحب اللعب، وغالبا ما كانت جدته تضربه أيضا لأنه تأخر في العودة إلى المنزل، وكنت أذاكر على "لمبة جاز" وكرسي "عشرة" وهو مقعد توضع عليه الأواني، ويمر قطار آخر الليل في العاشرة مساء ويصفر صفيرا خافتا، وعلي أن أطفئ المصباح وأنام، لأصحى تلقائيا في الخامسة صباحا، وكان يخشى أن يستيقظ ويصل إلى المدرسة متأخرا، أو تستيقظ جدته وتجده لم يذهب إلى المدرسة.

غرست هذه الطفولة والحياة التي عاشها يوسف إدريس في نفسه شيئين رئيسيين؛ الأول محاولة احتمال الواقع بتجميله باللجوء إلى الخيال، والثاني أنها منحته القوة، مؤكدا: فالطفل الذي يتجاوز هذه الطفولة المحرومة ولا يموت، ينشأ قويا جدا، أقوى من الأطفال الذين نشأوا نشأة عادية، وتابع: وهناك شيء ثالث تعلمته من طفولتي هو أنه لا نهاية للأحلام، فهناك بعض الناس بمجرد أن تحقق ذاتها وحتى ذاتها المتواضعة جدا، تكتفي بذلك، ولكن الحلم بالنسبة ليوسف إدريس ليس أن يحقق ذاته فقط، ولكن أن يغير ذلك، أن يضع مصر كلها على طريق جديد، حتى لا ينشأ أطفال بهذه الصورة.