رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملك الأغنية الشعبية يروى «4»: أنا والعندليب أسرار العلاقة من أول لقاء فى«محطة طنطا»

العندليب
العندليب

فى إحدى زياراتى لدسوق، وفى أثناء عودتى إلى القاهرة، جلستُ فى محطة طنطا أنتظر القطار، وفاجأنى صوت ينادينى: يا فنان، يا فنان.
كان عودى هو الدليل، التفتُّ إلى مصدر الصوت، فوجدته شابًّا أنيقًا، وجهه قمحى يميل إلى سُمرة المصريين، فى عينيه مسحة حزن وهدوء عجيب، مظهره على بعضه يشدّك من أول نظرة.
سألته: إنت بتنادى علىَّ؟
ضحك: هو فيه فنان غيرك فى المحطة؟
سألته: إيه اللى عرفك؟ أجاب: إنت مش معاك عود؟ تبقى فنان!
ضحكتُ: عندك حق، تصدق مش فى دماغى حكاية العود دى خالص.
لا أنا قلت له اسمى من البداية، ولا هو قال اسمه.
قلت له: «أنا اسمى رشدى محمد (كان يحمل هذا الاسم فى دسوق قبل أن يصبح محمد رشدى)، من دسوق ومطرب معروف فى بلدنا».
رد عبدالحليم: «وأنا عبدالحليم شبانة، مدرس موسيقى فى ملجأ أيتام هنا فى طنطا، أخويا المطرب إسماعيل شبانة».
سألنى: «على فين العزم، وإيه حكاية العود اللى معاك؟».
فى القطار، اشترينا الصميت والترمس والدَّقة، أكلنا بشهية ومحبة ودفء، تحدثنا وفى الحديث ظهرت شخصية كل واحد منا، هو ابن المدينة اللى تعلم فيها التحضر، وأنا ابن دسوق اللى الفلاح لسه جواه، ترك عندى انطباعًا بأن عنده طاقة فنية هائلة، مسك العود، دندن عليه، صوته كان فيه حاجة عجيبة تسكن القلب، فيه إحساس رهيب فى صدقه، وأنا غنيت لليلى مراد ومحمد عبدالمطلب.
وصل القطار إلى محطته النهائية فى «باب الحديد» بالقاهرة، كان الوداع دافئًا.. سألنى عبدالحليم عن وجهتى، فأجبته بأننى سأذهب إلى واحد بلدياتى اسمه أحمد المنشاوى، فأمدّنى عبدالحليم بعنوان سكنه «السيدة زينب، بركة الفيل»، وسلم على: «هشوفك. هستناك. أنا سهرتى كل يوم فى قهوة التوفيقية».
.. ومرت الأيام.

مع النجاح الهائل الذى حققته كان يجلس عبدالحليم على الطرف الآخر متابعًا وقلقًا من لونى الشعبى الذى أصبح على كل لسان، ولأن هذا اللون يعود الفضل فيه إلى ثلاثى هو «بليغ والأبنودى وأنا»، رسم خطة بسحب الاثنين إليه فى تعاون مشترك، ولأنه يعرف بليغ من قبل وحدث بينهما تعاون فى أغنيات بدأت مع «تخونوه»، كانت خطته هى سحب الأبنودى.. وكان هذا ذكاء من عبدالحليم لأن قطار الأغانى الشعبية كان يبدأ من الكلمة، والكلمة كانت عند الأبنودى.
وقدما معًا مجموعة من الأعمال.
جرت المقارنات بينى وبين عبدالحليم بعد أغنيته «وأنا كل ما أقول التوبة».. ذهبت جميعها لصالحى، ناس سألت: إيه اللى بيعمله عبدالحليم ده؟ عبدالحليم لم يكن موفَّقًا فى هذه الأغنية، ولا كان بليغ موفقًا، لم يقدمها عبدالحليم كتراث شعبى له أصوله، أخطأ عبدالحليم فى الأغنية.. مرة يقول «وأنا كل ما أقول التوبة»، ومرة تانية يقول «وأنا كل ماجول-بالجيم- التوبة».. تلقف المثقفون هذا الخطأ ونددوا به.. تساءلوا: لماذا يعتدى عبدالحليم على اللون الشعبى الذى يبدع فيه محمد رشدى؟.
شعرت بأن الحلم الذى عثرت عليه يواجه أكبر تحدياته ومهدد بالضياع، فمن سيكتب كلامًا موزونًا بالذهب لى مثل الأبنودى؟ ومَن سيلحّن لى أنغامًا ذهبية مثل بليغ؟، وذهبتُ بحيرتى إلى صديق عمرى الروائى محمد جلال الذى توطدت علاقتى به منذ أزمة تجاهل اسمى فى موال «أدهم».
استمع جلال لهمومى.. أبديتُ له مخاوفى على مشروعى الغنائى، كان شبح الماضى يطاردنى بقوة.. قلت له: أنا لقيت طريقى مع الأبنودى وبليغ، وحلمت معهما وبهما، وللأسف الحلم بيضيع.
حذّرنى جلال.. تحدث معى كأن حلمى هو حلمه.. قال: إيّاك أن تتوقف، لا بد من البحث عن حل، وأمامنا طريق واحد مالوش تانى.. سألته: إيه هو الطريق ده؟ أجاب: طالما أن استرداد الأبنودى وبليغ عملية صعبة لازم نبحث عن بديل، والبديل الذى أقترحه عليك هو حلمى بكر.
وبالفعل حققنا نجاحًا هائلًا.

فى عام ١٩٧٢، أُصيب عبدالحليم بنزيف حاد مفاجئ ونحن فى المغرب، فانتقل إلى المستشفى، وكان الملك يتابعه شخصيًّا، وبعد أن استقرت حالته أرسله إلى أكبر مستشفى فى باريس على نفقته الخاصة، كنا فى قلق دائم.. زرته فى المستشفى، قال لى: «الملك بيقدّرك وبيقول عليك: إنت ولد الناس، وتلف محافظات المغرب. وبالفعل قمت بإحياء حفلات فى ١٢ أو ١٣ محافظة، وكان معى عفاف راضى وفايزة أحمد، ووقتها وقعت لى حادثة مؤسفة».
أوعز أحد الفنانين العرب إلىّ أن أشرب كأسًا من الخمر، وأنا لا أشربها من الأصل.. قال لى: اشرب هذه الكأس لكى تستطيع مواجهة الجمهور، وكانوا بالآلاف فى ملعب «الثيران».. عدت إلى الفندق، ففوجئت بورم فى لسانى، وعرف أحمد الحفناوى عازف الكمان، وأحمد فؤاد حسن، قائد الفرقة الماسية، وشكّا أنه «ورم خبيث»، ونصحنى مجدى العمروسى بألا أتكلم فى هذا الموضوع لأننى المخطئ، وأجريت التحاليل اللازمة وأثبتت أنه ورم عادى، وخضعت للعلاج حتى تم شفائى، ورغم مرض عبدالحليم فى باريس، فإنه اتصل بى، وعرض سفرى إلى باريس للعلاج.

كانت وفاة عبدالحليم ضربة لنا جميعًا.. بكيت يومها بحرقة، عدت بشريط ذكرياتى معه منذ مقابلتنا الأولى مرة فى محطة القطار فى طنطا.. تذكرت كل معاركنا، التى تناولتها الصحف والمجلات فى ذلك الوقت، وقيمته الفنية الإنسانية، لم أنسَ ما حدث لى فى المغرب وقت إصابتى فى لسانى، وكان هو فى باريس للعلاج، تذكرت معاركنا، وللأمانة أنا لم أدخلها لكى أهزمه.. كان الأذكى والأقوى بتعامله مع الفن بإخلاص شديد منذ بداية طريقه، هو فهم الظرف، تعلم، تثقّف، جمع حوله كل الذين يفيدونه.. أنا عشت الأول فى لونى، وهو الأول فى القيمة، فعل كل شىء من أجل رُقى الأغنية.. أنا تزوجت وهو لم يتزوج، أعطانى الله نعمة الأولاد والصحة، وعاش هو معذبًا بالمرض لكنّه حقّق المجد.. عبدالحليم هو عنوان شامل لقصة جيلنا.
بعد وفاة عبدالحليم بشهور سافر السادات إلى إسرائيل، وبعدها حدث توقيع اتفاقية كامب ديفيد.. فيه ناس بتربط بين حكاية الصلح مع إسرائيل، وأغنية «يا عبدالله يا خويا سماح، وسيبك م اللى عدّى وراح، تعالى نعيش أنا وأنت فى دنيا كلها أفراح، وسيبك م اللى عدّى وراح» وهى من تأليف حسن أبوعتمان، وألحان بليغ حمدى.. هذا الربط غير صحيح، لأن الأغنية تمت قبل زيارة السادات إلى إسرائيل بوقت كبير، ممكن ناس تأخذ منها إسقاطات وتأويلات وتفسيرات، لكن الأغنية كانت قبل ما فعله السادات.
جاء لى مسئول أمنى كبير ليناقشنى، كلّمنى على إغراءات كثيرة مقابل إعلانى التأييد والغناء.. كانوا بيحاولوا حشد الفنانين، لكنى تحدثت معه بحدة، وكان الرد هو زيادة الحصار الفنى علىّ، وقتها شغلنى سؤال: لو كان عبدالحليم موجودًا.. ماذا كان سيفعل بعد كل ما قدمه فى الأغنية الوطنية؟