رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: الجن فى مواجهة عفريت رمضان

جريدة الدستور

استطلع المصريون كعادتهم هلال رمضان من عام ١١٨٥ الموافق عام ١٧٧١ ميلادية. كان على بك الكبير أسعد الناس فى هذه اللحظات. فقد دان له ملك مصر وجمع ما يشاء من أموال من المصريين، وكعادته نسى الشعب معاناته فى غمرة الأفراح والاحتفالات التى غرقت فيها مصر حينذاك، والتى توافقت مع احتفالهم بالشهر الكريم. قبل حلول رمضان بشهرين كان «الكبير» قد جرد حملة إلى الشام بقيادة ذراعه اليمنى «محمد بك أبوالذهب». الباب العالى سمح له بالتمدد إلى الشمال بعد الرشوة السخية التى قدمها للسلطان وحاشية السلطان. ولأنه كان يوصف بـ«الجن» كان من الطبيعى أن يعتمد على «عفريت» فى مد أقدامه إلى الشام وما ورائها، وكان العفريت محمد أبوالدهب حاضرًا، فأرسله «الكبير» مع قوات ضخمة من المماليك إلى الشام تمكنت من فتح مدنها الواحدة تلو الأخرى، ووصلت الأخبار إلى مصر فأقيمت الزينات وقرعت الطبول ونادى المنادى فى شوارع القاهرة بنهر الأمجاد الذى تدفق فى البلاد على يد على بك الكبير. كان الأخير من الخبث بحيث خطط لإبعاد محمد بك أبوالدهب عن مصر، فقد كان يعلم أنه المنافس الأكبر له على الحكم، وأنه لا يقل عنه طموحًا أو طمعًا فى العرش، ويتفهم أيضًا أن ثمة مجموعة من الأمراء الملتفين حوله. أرسل على بك إلى أبى الدهب بعدم العودة إلى مصر وفتح ما وراء الشام من مدن وأمصار، بحيث لا يتوقف عن الفتح إلا مضطرًا. وعندما وصلت الرسالة إلى «أبى الدهب» اختلى بالأمراء الثقات وشاورهم فى الأمر.
طرح «أبوالدهب» مضمون الرسالة التى وصلته من «الكبير». أحضر مصحفًا وسيفًا وأقسم الجميع على كتمان محتوى الجلسة. تحدث الأمراء أولًا فعبروا عن تعبهم وضجرهم من مواصلة القتال وإحساسهم أن على بك يريد إبعادهم وزعيمهم عن القاهرة، ثم تحدث أبوالدهب فوافقهم الرأى وتعاهد الجميع على عصيان الأوامر والتوقف عن مواصلة القتال والعودة إلى مصر المحروسة. علم «الكبير» بما دار فى الجلسة. ثم بوغت بخبر عودة أبى الدهب فأرسل إليه فرقة اغتيالات، لكنه تمكن من الإفلات منها، وفر إلى جرجا بصعيد مصر حيث يحكم صديقه وتلميذه «أيوب بك». وعندما علم على بك الكبير بذلك بعث بمرسال إلى «أيوب» يأمره بقتل «أبوالدهب»، لكن عيون وجواسيس الأخير تمكنت من القبض على رسول «الكبير» وفضت الرسالة التى معه وأفضت بمحتواها إلى «أبى الدهب»، فما كان منه إلا أن أمر أتباعه بترك الرسول يمر بالرسالة إلى «أيوب بك» على أن يخبرهم برده عليها. وكان رد أيوب على رسالة «الكبير» بالسمع والطاعة، ووعد بقتل «محمد بك». علم الأخير بما حدث، فما كان منه إلا أن اجتمع بأيوب بك وسأله فى أمر الرسالة التى وصلته ورده عليها، فكذب عليه الأخير وأقسم بقطع يده ولسانه إذا كان يريد به سوءًا. فأجابه أبوالدهب قائلًا: حكمت على نفسك، وكشف له كذبه عليه، وأمر أتباعه بالقبض على أيوب بك واصطحابه فى مركب- ومعهم المشاعلى- وقطع يده ولسانه. نفذ الأمر وقام المشاعلى بقطع يد أيوب، ثم شبك صنارة فى لسانه يريد قطعه، ففر الأخير منهم وقفز فى الماء ولقى حتفه.
كان ذلك آخر رمضان يصومه أيوب بك، ومن بعده صام على بك الكبير رمضانًا واحدًا، ثم لقى حتفه بعد أن تمكن أبوالدهب من هزيمته مرتين، وأخذ أسيرًا فى المرة الثانية، وأنزلوه فى داره بدرب عبدالحق حيث مات هناك بعد ٧ أيام، ولا يدرى أحد كيف مات. كان ذلك فى شهر صفر عام ١١٨٧ هـ، فى وقت كان المصريون يستعدون فيه لاستقبال رمضان جديد يمارسون فيه طقوسهم المعتادة بعد أن هدأ الصراع بين الجن والعفريت لصالح الأخير